سلسلة الثقوب السوداء: الحلقة الأولى
الحلقة الأولى: الانفجار العظيم و نشأة الكون
منذ قديم الزمان، نظر الإنسان للسماء ليري أمامه لوحة رائعة لا متناهية من النقاط المضيئة في الليل، و قد طرح على نفسه السؤال بفطرته الفضولية، محاولاً معرفة ماهية هذه النقاط و كيف تشكلت، و الأهم، ما علاقته بها، و في زمن لم يملك به الإنسان أي أداة علمية تساعده في الإجابة عن استفساراته، فإن معضلة الإجابة عن أسئلته الوجودية أفضت لعلم الخرافات و الأساطير، و التي لا نزال نتأثر بالعديد منها، كمسألة تشكل مجرتنا “درب التبانة” و التي تعود لأسطورة الملكة هيرا و ابنها الأمير هرقل.
و حديثاً، و بعد تطور المجاهر و التلسكوبات، و استخدام العلماء لها لسبر أغوار الفضاء، فإن الإجابات العلمية الدقيقة بدأت تتوالى، و الأفكار الخرافية بدأت تتلاشى، و معرفتنا بالمجموعة الشمسية و الكواكب بدأت تزداد، إلا أن السؤال الجوهري الأهم لازال يخطر ببال الجميع: كيف تشكل الكون؟
اللمحة الأولى…راهب بلجيكي و ذرة بحجم حبة البازلاء!
اللمحة الأولى حول ماهية الكون كانت مع آلبرت آينشتاين بمقالته المنشورة عام 1917 “تأملات كونية في نظرية النسبية العامة”، حيث بينت معادلاته الرياضية أن الكون يجب أن يكون بحالة حركة و توسع مستمر، إلا أنه، و بسبب قناعته بوجوب سكون الكون، أدخل ثابتة سماها “الثابتة الكونية” كي يجعل حلول معادلاته تفضي لحالة سكون، و ليس حالة حركة، و بكل الأحوال، فإن العالم الروسي ألكسندر فريدمان أعاد حل معادلات آينشتاين و أظهر خطأ إضافة الثابتة الكونية، و بين ضرورة توسع الكون، و بقائه بحالة حركة مستمرة.
و بالنسبة لمنشأ الكون، فإن الفكرة بدأت مع راهب بلجيكي يدعى “جورج لوميتر” الذي خرج بفكرة أن الكون كله قد بدأ بنقطة صغيرة لا متناهية الكثافة و الكتلة، انفجرت لتعطي كل الجسيمات الأولية التي شكلت فيما بعد المجرات و الكواكب، و هذه الفكرة، قد اصطدمت فيما بعد مع أنصار نظرية أخرى خرجت للقول أن الكون لا نهائي، أي أنه بدون بداية أو نهاية، و لا يوجد نقطة صفر انطلق منها كل شيء، و مع مرور الزمن انقسم علماء الفيزياء الفلكية بين هذين الفكرتين: فتشكل فريق يدعم نظرية لوميتر و التي عرفت فيما بعد بـ “الانفجار العظيم” و الفريق الآخر الذي عرفت نظريته بـ “الكون المستقر اللانهائي”.
الانفجار العظيم…الصدفة تتدخل للإثبات!
تطلب الموضوع في النهاية حسماً بين الفريقين، و تحمس أحد تلامذة الكسندر فريدمان، و هو عالم روسي آخر يدعى “جورج غاموف” لفكرة الانفجار العظيم، مقابل الفريق المتحمس لفكرة الكون المستقر اللانهائي بقيادة “فريد هويل” و “هيرمان بوندي” و “توماس غولد” الذين استماتوا بالدفاع عن نظريتهم.
ادعى غاموف أن الانفجار العظيم إن حصل، فإن حرارة هائلة ستنتج عنه، و هذه الحرارة ستبرد بعد الانفجار العظيم لتصل إلى درجة حرارة منخفضة جداً قريبة من الصفر المطلق، إلا أنها لن تزول حتماً، حسب مبدأ انحفاظ الطاقة و مصونيتها، و لذلك فقد تركز عمله على محاولة البحث عن الحرارة الناتجة عن الانفجار العظيم.
لأجل الصدفة، و في نفس الوقت الذي كان يعمل غاموف و فريقه على إيجاد هذه الحرارة الضائعة، كان هنالك مهندسا اتصالات هما آمو بنزياس و روبرت ويلسون يعملان في مختبرات بيل بالولايات المتحدة من أجل بناء الهوائي المستقبل لإشارات تيل ستار، وهو أول قمر صناعي للاتصالات التلفزيونية عبر المحيط الأطلسي، و أثناء عملهما، سمع المهندسان أصواتاً و همساً خفيفاً لا ينقطع، و ظنا في البداية أنه تشويش بسبب روث الطيور، و بعد تنظيف الهوائي بقي الهمس موجوداً، و لاحظا أن الهمس يبقى ثابتاً مهما أدارا الهوائي و بكل جهات الاستقبال من الفضاء، و لاحظا أن الإشارات التي يستقبلانها هي موجات ميكروية أقصر من طول موجات الراديو و أطول من الأشعة تحت الحمراء، و هي تتوافق مع إشعاع حراري أعلى من الصفر المطلق ببضع درجات!
سمع بنزياس و ويلسون بعد فترة بمشروع روبرت ديك من جامعة برنستون من أجل البحث عن حرارة الانفجار العظيم، و أطلعاه على نتائجهما، و لدى دراسة النتائج، و تدقيقها، تبين أن الإشعاع الملتقط بالهوائي الذي بناه هذين المهندسين هو الإشعاع الناتج عن الانفجار العظيم، و الذي بقي جورج غاموف و زملاؤه يبحثون عنه طوال 15 عام دون جدوى!
و بهذه الطريقة، و بالصدفة العلمية البحت، تمكن مهندسا اتصالات من إثبات نظرية الانفجار العظيم، و التي اعتمدت بشكل رسمي كالنظرية المفسرة لنشوء الكون، و نال بنزياس و ويلسون التقدير المناسب لعملهما حين نالا جائزة نوبل للفيزياء عام 1978.
موجز تاريخ الكون
بعد تحديد نقطة الصفر لنشأة الكون، بدأت المسألة الأخرى الأكثر تعقيداً و هي تحديد عمر الكون و كيفية تشكله، و اعتماداً على النسبة التي طورها العالم ادوين هابل (نسبة المسافة الظاهرية للنجوم إلى السرعة التي تتحرك بها) فقد تم التوصل لعمر دقيق للكون حدد بـ 13.7 مليار سنة، و المعطيات الحديثة المتوفرة من مهمة بلانك بينت أن عمر الكون بالتحديد هو 13.8 مليار سنة.
و بدأ العديد من العلماء بحث و دراسة اللحظات الأولى التي أعقبت الانفجار العظيم، من أجل معرفة كيفية تشكل المادة، و تجمعها، و كيفية تشكيل السدم الغازية، و من ثم النجوم، فالمجرات، فالمجموعات المجرية.
و بنتيجة الأبحاث النظرية، فإن الـ 300 ألف سنة الأولى التي أعقبت الانفجار العظيم قد شهدت الأحداث التالية:
i. قبل 13.8 مليار سنة: الانفجار العظيم
ii. اللحظة 10^-45 من الثانية الأولى: بدأ العمل، درجة حرارة الكون 10^32 درجة و الكون يأخذ شكل كرة دقيقة نصف قطرها 10^-32 سم
iii. اللحظة10^-35 من الثانية الأولى: الكون يبدأ بالانتفاخ و عالمنا المرئي يأخذ حجم كرة المضرب
iv. اللحظة 10^-32 من الثانية الأولى: يتوقف انتفاخ الكون و يتجدد الانفجار الأعظم و يكون بهذا الوقت من عمر الكون قد تكون نوعين من الجسيمات الكواركات(تتحسس القوى الشديدة) و الليبتونات(تتحس قوة كهرضعيفة موحدة)
v. اللحظة 10-11 من الثانية الأولى: القوى الكونية الأولى تبدأ بالتنوع فتظهر القوة الكهرطيسية و تنخفض درجة الحرارة إلى مادون 10^15 درجة مئوية
اللحظة 10^-6 من الثانية الأولى : مذبحة الكواركات، حيث أن الكواركات و أضدادها تسبح و تفني بعضها البعض في الفضاء و تنخفض درجة الحرارة إلى ما دون 10^13 درجة مئوية و هي درجة لا تسمح بتوليد الكواركات
vi. اللحظة 10^-4 من الثانية الأولى : الكون أصبح بحجم نظامنا الشمسي و الباريونات أخذت تتشكل، و هنا توقف فناء الكواركات بعد انخفاض درجة الحرارة و أخذت تتحد لتشكيل البروتونات و النترونات
vii. نهاية الثانية الأولى: تنجو معظم النترينوهات، التي تحررت من القوة الضعيفة قتحررت و انطلقت بأعداد كبيرة
viii. خلال 100 ثانية من الانفجار: تتحد البروتونات و النترونات فجأة لتشكيل نوى الهليوم و تبرد درجة حرارة الكون إلى حوالي حرارة فرن الفولاذ
ix. خلال 300 ألف سنة من الانفجار: الكون يضيء، الالكترونات تبدأ بالالتحاق بالنوى قتولد أول مادة نووية و الإشعاع لم يعد كافياً لتدمير الذرات و غدا الكون شفافاً و غمره الضوء.
أما على صعيد السنين و المسافات الطويلة الأمد، فإن تطور الكون قد مر بالمراحل التالية:
• بعد بضع دقائق من عمر الكون : الكون 75 % هيدروجين و 25 % هليوم
• 300ألف سنة: الالكترونات تبدأ بالالتحاق بالنوى
• بعد مليار سنة من عمر الكون: المادة تتجمع كتل
• بعد 2 مليار سنة: تشكل الكوازارات(أسلاف المجرات)
• بعد 3 مليار سنة: تشكل المجرات
• بعد 5 مليار سنة: مجرة درب التبانة تأخذ شكلها
• بعد 9.3 مليار سنة: ولادة الشمس
• بعد 9.5 مليار سنة: ولادة الكرة الأرضية
• بعد 12 مليار سنة: أشكال الحياة الأولى تظهر على سطح كوكب الأرض
• بعد 13.8مليار سنة: الحياة في يومنا الحاضر
و يجدر بنا الذكر أن الأرقام السابقة هي أرقام تقريبية، فحسب طرق قياس عمر النجوم و المجرات، و التي تعتمد إما على التأريخ للعناصر المشعة، أو على طريقة تبريد الأقزام البيضاء، فإن هذه الأرقام قد تختلف عن بعضها قليلاً، و ذلك حسب المعلومات المنشورة مؤخراً من مهمة بلانك.
إلى هنا تكون الحلقة الأولى قد انتهت، و انتظرونا غداً في الحلقة الثانية، التي سنتحدث فيها عن دورة حياة النجوم.
تحرير: ماريو رحال