سلسلة الثقوب السوداء: الحلقة الرابعة

ما هي الثقوب السوداء؟

وجدنا سابقاً أن النجوم تبعاً لأحجامها المختلفة تنتهي مسيرتها بأحداث مختلفة، فكلما كبر حجم النجم كلما ازدادت الأحداث غرابةً عندما ينتهي مخزونه الهيدروجيني، إلا أن أياً من التغيرات السابقة لم يخرج عن المألوف و كلها كان ضمن الاحتمالات المنطقية و التصورات الفيزيائية الممكنة الحدوث.
يبقى السؤال: ماذا لو كان النجم أكبر من شمسنا بثلاث مرات أو أكثر ؟؟ ماالذي سيحصل بهذا النجم ؟ كيف سيتغير و يتحول؟؟ دعونا ننطلق سويةً لنتعرف على لغز الكون…النوافذ الكونية…
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الثقوب السوداء تاريخياً…قصة و تطور
حتى مطلع القرن العشرين، كان الاعتقاد السائد لدى أغلب العلماء أن النهاية الحتمية لدورة حياة أي نجم هي عبارة عن قزم أبيض، و كان هناك قناعة راسخة بهذا الموضوع و أصبحت أشبه بالمسلمة العلمية…إلا أن واقع الأمر أشار إلى أن القزم الأبيض لا يعدو كونه مجرد حالة عادية جداً من حالات نهاية حياة النجوم…فهو الحالة الطبيعية المستقرة التي سيؤول إليها العديد من النجوم،إلا أنه عملياً لا يساهم بشيء يذكر في النشاط الكوني…خلافاً لغيره من الأجرام

جون ميشيل…نجم و جاذبية
خلافاً لما يعتقده الكثيرون، فإن بداية قصة الثقوب السوداء لا تعود للعصر الحالي، فعلى الرغم من أن الاهتمام الفعلي بالموضوع تم على يد علماء العصر الحديث،إلا أن للقصة حذوراً تعود إلى أيام النهضة العلمية.
كما نعلم جميعاً، فإن سرعة الافلات من الجاذبية الأرضية هي بحدود 11 كم في الثانية الواحدة، أي أن الجسم المنطلق من الكرة الأرضية باتجاه الفضاء الخارجي، عليه أن يسير بسرعة 11 كم بالثانية الواحدة كي يستطيع الافلات من حقل الجاذبية الأرضي، و تعتمد سرعة الافلات هذه على الكتلة الثقالية .
و بنفس السياق، فإن سرعة الافلات من حقل الجاذبية الخاص بالشمس(أقرب النجوم إلينا) ينبغي أن تكون 620 كم بالثانية، بينما يتطلب الافلات من حقل الجاذبية الخاص بنجم نيوتروني الانطلاق بسرعة قدرها 200 ألف كم بالثانية الواحدة، و ذلك بسبب الجاذبية الهائلة التي يتمتع بها هذا الجرم الرهيب.
الجدير بالذكر أن هذه الحسابات كلها قد أجريت في العصر الحديث، أي أنه باستخدام التقنيات الحديثة تمكن العلماء من التوصل لهذه الأرقام، إلا أن التاريخ يذكر لنا أن العالم الفلكي الانكليزي جون ميشيل (1724-1793)John Michell وجد في عام 1783 أنه إذا كان النجم ثقيل بما يكفي، فإن سرعة الافلات منه تزيد عن سرعة الضوء، أي أنه يجب أن تزيد السرعة عن 300000 كم بالثانية الواحدة، و اعتقد استناداً إلى نظرية نيوتن القائلة بأن الضوء جسيمات، بأن قوة ثقالة النجم ستقوم بسحب الضوء إليه مرة أخرى، و قد كتب قائلاً : ” إن كل الضوء الصادر عن نجم كهذا سوف يعاد إليه بفضل جاذبيته “.
وعلى الرغم من أن نظرته التحليلية للأمر كانت خاطئة – إذ أن سرعة الضوء لا تتغير بفعل الجاذبية – إلا أن فكرته كانت صحيحة…
كان ميشيل عالماً فلكياً نظرياً، لذلك فهو قد أشار إلى إمكانية وجود هذه الأجسام في الفضاء – استناداً إلى قوانين الرياضيات في الاحتمال – إلا أنه لم يتمكن يوماً من تحديد طبيعتها و ماهيتها و ليترك مجالاً واسعاً بعده للخيال.

شاندرا سيخار…و بداية الشرارة
خلال فترة من العصر الحديث تميزت بأزمة اقتصادية رهيبة في الولايات المتحدة و بداية رحلة الاكتشافات العلمية التي ستغير وجه التقنية خصوصاً في المجال الالكتروني حيث كانت ثورة أنصاف النواقل تشهد بدايتها، لم يكن التفكير بقضية انتهاء حياة النجوم قضية حساسة بالنسبة للمجمع العلمي، بل إن قضية أخرى مثل كيفية نشوء الكون كانت القضية التي تطغو على الساحة العلمية الفلكية بشكل أبرز.
إلا أن الفلكي الهندي الشهير ” سوبرامنيان شاندرا سيخار “(1910-1995) Subramanyan Chandrasekhar وضح في العام 1931 أنه من أجل نجم كتلته أكبر من كتلة الشمس بـ 1.5 مرة، من الممكن أن تتغلب قوة الثقالة الساحقة على مبدأ باولي، و هذا ما يعرف بحد شاندرا سيخار،حيث يعرف حد شاندراسيخار كما يلي: ” أكبر كتلة غير دوارة يمكن لضغط انحلال الالكترون أن يمنع فيها حدوث انهيار تجاذبي ” ما الذي قصده هذا العالم الهندي ؟؟
المقصود من هذا الاستنتاج، أنه عندما ينتهي المخزون الهيدروجيني لنجم كبير جداً، أكبر من شمسنا بعدة مرات(على وجه التحديد فإن حد شاندراسيخار يعرف نجوماً أكبر من شمسنا بـ 1.4 مرة)، فإن قوة الثقالة التي ستنشأ في هذا النجم(بعد سلسلة تحولاته و تغيراته التي تحدثنا عنها سلفاً) ستتجاوز الحد الذي سترتص به الجزيئات الذرية جنباً إلى جنب، حيث أنه بمرحلة النجم النيوتروني كانت الجزيئات الذرية مثل البروتونات و النترونات ترتص إلى جانب بعضها البعض دون أي فراغ بينها و دون أي حاجز يفصلها، بينما إذا كان النجم الأصلي كبير لحد معين(أكبر من شمسنا بثمانية مرات)، فإن هذا الارتصاص سينهار و ستندمج البروتونات و النترونات و الالكترونات مع بعضها البعض إلى ما لا نهاية، لنحصل في النهاية على جسيم لا متناهي في الكتلة و الكثافة و حجمه لا متناهي في الصغر، حيث أن حجمه لن يتعدى حجم الذرة الواحدة.
هذا باختصار كان استنتاج العالم الهندي شاندرا سيخار الذي يعتبر المفجر الأول لشرارة الثقوب السوداء في العصر الحديث و قد نال تقديراً لأبحاثه و اكتشافاته جائزة نوبل عام 1983.

أوبنهايمر…و اللامعنى في النسبية
كان العالم الألماني الشهير آينشتاين قد استطاع الفوز بجدال علمي شهير حين أثبتت مشاهدات عالم الفلك “هبل” أن الضوء أيضاً يتعرض للجاذبية و أن الجاذبية هي مفهوم نسبي بين الأجرام السماوية، حيث بين كيف أن الضوء القادم من نجم بعيد عند مروره أمام شمسنا ينحرف عن مساره بفعل جاذبية الشمس…و هنا كان الربط …
بعد جهود العالم الهندي شاندرا سيخار، أتى الدور على العالم الأمريكي أوبنهايمرRobert Oppenheimer) 1904 – 1967) حيث أشار إلى إمكانية حدوث ارتصاص ثقالي كالذي تحدث عنه شاندرا سيخار، إلا أنه ظن أن الأمر لا يعدو كونه حالة خاصة من حالات النسبية التي لا معنى لها، و تخلى عن دراسته للقضية و استأنف دراساته الذرية ليساهم بشكل فعال و رئيسي في عملية إنتاج أول قنبلة ذرية تلقى لأغراض حربية و هي قنبلة “الفتى الصغير Little Boy ” و التي ألقيت على مدينة هيروشيما اليابانية.
بعد أبحاث شاندرا سيخار و اوبنهايمر، أضحت قضية الثقوب السوداء قضية منسية بالنسبة للعديد من العلماء، و لم تأخذ حيزاً واسعاً من الاهتمام العلمي، بخلاف قضية الانفجار العظيم وأصل الكون التي كانت المحرك و الدافع للعديد من العلماء.

ستيفن هوكنغ…أسطورة العلم الحديث و كاشف شيفرة الثقب الأسود
في مطلع الستينات، كشفت محاولات مسح للسماء عن وجود منابع هائلة للطاقة الثقالية في الفضاء، حيث وجد عالم الفلك الأمريكي مارتن سميدت خلال مسحه للسماء عام 1963 وجود انزياح نحو الأحمر في طيف جسم باهت يشبه النجم، و ذلك في اتجاه مصدر موجات الراديو، فوجد أنه أكبر من أن يكون ناتج عن حقل الجاذبية، حيث لو أنه كان ناتج عن حقل الجاذبية لكان الجسم كبير الكتلة و قريب منا بحيث ستنزاح مدارات الكواكب في المجموعة الشمسية.
إن هذا الانزياح عن الأحمر ناتج عن توسع الكون، وهذا يقتضي أن هذا الجسم بعيد جداً عنا، و لكي يرى من هذه المسافة فهذا يتطلب منه أن يضخ قدر كبير جداً من الطاقة…فماذا يمكن أن يكون هذا الجسم ؟
توالت الاهتمامات بهذه الظاهرة، فبعد اكتشافات سميدت، بينت بعض الكشوف الفلكية في مجرة البجعة، وجود نجم يدور حول لا شيء!!
أصبحت هذه الظواهر محط اهتمام فعلي لأول مرة في تاريخ العلم، و بدأ الدارسون يأخذونها على محل الجدية.
في انكلترا العالمين سيتفن هوكنغStephen Hawking من جامعة كامبردج و روجر بنروز Roger Penrose من جامعة اكسفورد، درسا الثقوب السوداء و ما يحيط بهما من غموض و حللا أهم نتائج الاكتشافات العلمية حتى ذلك الحين، و بينا و لأول مرة طبيعة تلك الأجسام الغريبة، حيث بينا أن الثقب الأسود هو عبارة عن نقطة متفردة Singular ، تبلغ كتلة و كثافة هائلين(يكادان يبلغان اللانهاية) و تنهار عندها جميع القوانين الفيزيائية فتعجز عن التنبؤ بما يمكن أن يحصل فيها، و الأكثر حيرة أن لها حجماً من رتبة الأبعاد الذرية! الأهم من هذا أن الثقب الأسود يملك منطقة من الفضاء المحيطة به(مجال تأُثيره) و التي تدعى أفق الحدث Event Horizon، حيث أن الثقب الأسود خفي بعيد عن الأنظار داخل أفق الحدث التابع له، وفي أفق الحدث يتكور الفضاء بشدة بحيث لا يمكن لأي شيء حتى الضوء من الافلات من جاذبية الثقب الأسود، و نشير التقديرات الحديثة لحجم نقطة التفرد بالتابعة للثقب بأنها تعادل حجم جسيم البروتون، بكثافة و كتلة لا نهائيتين!

ما الذي حدث إذاً حتى تشكل الثقب الأسود؟
بالعودة إلى دورة حياة النجوم، وجدنا أن النجوم التي تكون أكبر من شمسنا حتى ثلاث أضعاف، تؤول عليها تغيرات متعددة، إلا أنها تبقى كلها ضمن التوقع المحتمل، أما بالنسبة للنجوم الضخمة و التي تفوق كتلتها كتلة شمسنا بعشر أضعاف، فتصح عليها فيزياء ميشيل و تخضع لحد شاندراسيخار، حيث أن الجاذبية الهائلة ستؤدي إلى سحق قوى الارتصاص بين البروتونات و النترونات المرتصة و ستندمج بع بضعها البعض و تدخل في مرحلة من التكاثف الرهيب الذي يستمر حتى يبلغ النجم مرحلة التفرد، أي يبلغ مرحلة الثقب الأسود.
و من الجدير بالذكر أن الانهيارات النجمية ليست هي السبيل الوحيد لتشكل الثقوب السوداء، حيث بين هوكنغ في بداية السبعينيات أنه يمكن أن تكون ثقوب سوداء قد ولدت أثناء نشوء الكون مرافقةً للانفجار العظيم، حيث سميت هذه الثقوب بالـ ” الثقوب السوداء الأزلية “.

هذه العمليات، و التحولات الغريبة بنهاية حياة النجوم الكبيرة (التي يفوق حجمها حجم شمسنا بـ 3 مرات أو أكثر) هي التي تؤدي لظهور الثقوب السوداء، و بالنتيجة فإن الثقب سيتكون من نقطة متفردة تقع في مركز البئر العميق للثقب الأسود، و من منطقة تحيط به هي “أفق الحدث”، التي عندها لا يمكن لأي جسم أن يفلت من جاذبية الثقب الهائلة، حتى لو كان الضوء نفسه، أما ما يحدث للجسم عند شفطه من قبل الثقب، و مصيره بعدها، فهي واحدة من أكبر ألغاز الفيزياء الفلكية، التي يحاول العلماء الإجابة عنها.

هذا النمط من الثقوب هو الآن أحد أهم مجالات عمل صادم الهدرون الأكبر(LHC:Large Hadron Collider) في مركز الأبحاث الأوربية للعلوم النووية (CERN:The European Center For Nuclear Reserches) و الذي مقره في جنيف، سويسرا، حيث يسعى العلماء ضمن مسرع الجسيمات الأكبر في العالم (محيطه 27 كم و يمتد بين الحدود الفرنسية و السويسرية) إلى محاكة الظروف البدئية و التي ساهمت بنشوء الكون و الانفجار العظيم، و من الأمور الهامة التي تندرج تحت جدول الأعمال هي محاكاة تشكيل ثقوب سوداء أزلية لمحاكاة تكون الكون.

في أغلب الأحيان، فإن الثقب الأسود لا يوجد لوحده، بل يدور بشكل رقصة ثنائية مع نجم مجاور له، ومن بين النجوم المفضلة بهذا المجال ثقب مجرة البجعة 1-x و الذي يبعد 6500 سنة ضوئية، حيث لاحظ العلماء أثناء شفطه للمادة من نجم مرافق له، تتولد أشعة سينية و ترسم مسارات حلزونية تغوص في أفق الحدث الخاص بالثقب.

إلى هنا نكون قد انتهينا من التعريف بالثقوب السوداء، و كيفية تشكلها، و أهم العلماء الذين ساهموا بتطوير معارفنا حولها، و يبقى علينا في الحلقة المقبلة، أن ننقل لكم التصورات و التفسيرات الحديثة التي سجلت بموضوع الثقوب السوداء، مثل مفعولاتها الكمومية، و تشبيهها بكومبيوترات عملاقة، و سبب تسمية البعض لها بالـ “المكانس الكونية”.

ابقوا معنا على صفح الفيزيائيون لمتابعة آخر التفاصيل المتعلقة بالثقوب السوداء!

تحرير: ماريو رحال

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *