(مقال لعالم الفيزياء كارلو روفيلي Carlo Rovelli، أحد مؤسسي نظرية الجاذبية الكمية الحلقية Loop Quantum Gravity، و هي نظرية واعدة لتوحيد نظريتي النسبية و الكم. نشر على موقع edge.org)

قد تبدو المخاوف بشأن الخيال في غير محلها على موقع من طينة “Edge” (الحافة).. حيث يبزغ الذكاء و الإبداعات.. كنت غالبا أستنفذ الكلمات بالثناء على الخيالات الحالمة و على أولئك الذين فكروا بما لم يتمكن غيرهم من تصوره، و لكنني أخشى وجود مبالغة في تقدير الخيال الحر و أعتقد أن ذلك ينطوي على عدد من المخاطر.

أما في مجال عملي الفيزياء النظرية.. تجد المجلات المختصة تحفل بالمواضيع التي تتحدث عن تعدد الأكوان، الأبعاد المتوازية، العديد من الأجسام التي لم يسبق لأحد رؤيتها من قبل و ما إلى ذلك… و غالبا ما يطلع علماء الفيزياء على ما يطرحه الفلاسفة و يتأثرون بأفكارهم أكثر مما يقرون.. فقد تأثر أغلبهم بـفكر بوبر، كون، فايَرابند و غيرهم من الفلاسفة، الذي يرتكز على مبدأ أن تقدم العلم مبني على إلقاء الماضي بعيدا و استحسان الرؤى الحديثة..

و الرائدان في ذلك هما كوبرنيكوس الذي تجرأ على تبني فكرة مركزية الشمس أي أن الأرض هي التي تدور حول الشمس (وليس العكس كما كان يعتقد حينها) و أينشتاين الذي تخيل أن الفضاء منحني و مندمج مع الزمان (الزمكان)،
و قد تبين أن كلاً من كوبرنيكوس و أينشتاين على صواب تماما..
فهل ستلاقي الخيالات الحالية نفس هذا القدر من النجاح؟

شخصيا لست مطمئنا لذلك, فشتان بين عامة الأفكار و الأفكار الجيدة .. لكل فكرة قيمتها و لكن الاختيار بينها له مكانة كبرى أيضا..

قضى عدد من زملائي في الفيزياء النظرية حياتهم بدراسة إمكانية تناظر الطبيعة أي ما يسمى بـ “التناظر الفائق”، و أشارت التجارب التي أجريت في عدة مختبرات مثل مختبرات CERN في جنيف باتجاه عدم وجود هذا التناظر.. حينها شهدتُ النظرات اليائسة في أعين بعض الزملاء متسائلةً “هل يمكن أن يكون كذلك؟” كيف تجرؤ الطبيعة على عدم إثباتها لتصوراتنا؟
تعد مهمة فصل الأفكار الجيدة عن الأفكار الساذجة بالطبع مهمة صعبة للغاية, و لكن أليس هذا هو تحديدا جوهر الذكاء الذي ينبغي رعايته؟

مع ذلك يقول الكثيرون اليوم أنه لا توجد “أفكار جيدة” و “أفكار سيئة”.. حيث من الممكن أن تكون كل الأفكار جيدة.. هذا ما سمعته من زملاء يمتازون بذكائهم الحاد في قسم الفلسفة: “كل فكرة تعد صحيحة ضمن سياقها الخاص”, “يجب علينا أن لا نقمع الأفكار التي قد تتغير نحو الأفضل غدا”، “كل شيء أفضل من غياب الإبداع”.. لكن غالبا ما نضطر للاختيار بين الواقع و دغدغة المشاعر، بين إدراك أننا لا نعلم و بين صنع قصص جميلة..

نحن نعيش في روايات نسجناها بأنفسنا الى حد كبير، لذا، لماذا لا نذهب إلى أجملها؟ بعد أن حررنا أنفسنا من الفِكر المنغلق الذي كان سائداً في الماضي، فلماذا نتردد؟ بإمكاننا خلق تفسيرات و صور ساحرة من أنفسنا و من بلداننا و من مجتمعاتنا .. لحد أن نكون مسحورين و منبهرين بأحلامنا الخاصة.

لكن هناك شيئا ما يقول لي بأننا يجب أن نقلق.. نحن نعيش ضمن عالم حقيقي.. لا تكون فيه جميع الوقائع جيدة بشكل متساوِ، مؤثرة بنفس الدرجة.. فمن بين العديد من الأحلام يوجد واحد منها نافع أو جيد، و القليل من التفسيرات ما هو صحيح.. كان أينشتاين يقول: “أنا لا أمتلك مواهب خاصة، أنا شديد الفضول فقط”، أدى فضوله هذا إلى العثور على الماس في الصخور الرملية، و ليس أحلاماً من السماء الزرقاء.
في أكثر الأحيان تكمن المشكلة في تحول خيالاتنا الواسعة بخصوص التنوع المدهش الموجود في الواقع إلى مسودات بائسة.. و مع ذلك فقد لاقت الإبداعات العلمية نجاحات كبيرة قادتنا إلى ما نحن عليه الآن و ذلك بافتراض النظريات و بالتشكيك البالغ بنتائجها..

فاليوم ينتابني الخوف من مبالغتنا في انبهارنا بالخيال و انسياقنا وراءه، و عليه نخاطر بابتعادنا عن قساوة واقع استقلال العالم عن عجز عقولنا.

ترجمة: نور القيسي

مراجعة: مهدي السنيوسي

المصدر: http://www.edge.org/response-detail/23695

مصدر الصورة:

https://www.deviantart.com/anarasha/art/imagination-141646207

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *