سلسلة الثقوب السوداء: الحلقة الخامسة
التصورات الحديثة حول الثقوب السوداء
تعرفنا في الحلقات السابقة من سلسلة الثقوب السوداء على ماهية الثقب الأسود، و كيفية تشكله، و من أهم أبرز العلماء الذين ساهموا بتشكيل الأفكار و التصورات حوله.
و على الرغم من توفر العديد من المعلومات و المعطيات حول الثقوب السوداء، و التي تم تأمينها من التلسكوبات الفضائية مثل تلسكوب هبل و تلسكوب كبلر، إلا أن بعد الثقوب السوداء عننا، و عدم القدرة على إرسال بعثة علمية تدرسه عن قرب، قد جعل العديد من الأفكار و النظريات غير محسومة بشأن الثقوب السوداء.
و يعتقد العديد من العلماء الآن أن الثقوب السوداء ربما تشكل قلب لمعظم المجرات، فهي تملك قدرة هائلة على جذب الأجسام حولها و تكوين نظام جاذبي كوني هائل، و من المفارقات التي طرحت هي مصطلح ” نافذة بين كونين ” و هي عبارة أطلقها أسطورة العلم الحديث ستفين هوكنغ حول الثقوب السوداء و يؤمن بها أيضاً العديد من العلماء، فيرون أن الثقب السوداء هو امتداد لنظرية الأكوان المتوازية، وهو يشكل نافذة العبور للأكوان الأخرى، حيث أن الثقب الأسود لا يمكن التنبؤ بما سيحصل داخله و ضمنه، و حيث تنهار كل قوانين النسبية العامة الخاصة بالزمكان Spacetime ، فإن الثقب الأسود ليس سوى منفذ عبور لكون آخر موازي لنا.
و لعل التفسير الأهم الذي تم حول موضوع الثقوب السوداء، هو استخدام الميكانيك الكمومي في تفسير آلية عمل الثقوب السوداء، و ذلك بفضل عبقري الفيزياء الحديثة ستيفن هوكنغ، الذي استخدم فكرة المفعولات الكمومية Quantum Effects من أجل تفسير متناقضة تتعلق بالثقوب السوداء، فعندما تختفي أي مادة داخل الثقب الأسود، لا بد أن تخلف ورائها قليلاً من المادة نفسها، إلا أن هذا لا يحدث، و ما نشاهده فعلياً، أن الثقوب السوداء، تعمل فعلياً كمكانس كونية، تحافظ على الكون مرتباً و أنيقاً، و هو الأمر الذي يعتبر خرقاً لمبدأ فيزيائي أساسي وهو مبدأ “الأنتروبية” و الذي ينص على أنه إذا ترك النظام الفيزيائي لوحده، فإنه سيجنح نحو حالة الفوضى، و ليس حالة الانتظام، و تم حل هذه الفكرة، بأن الثقب الأسود نفسه، عند ابتلاعه لأي جسم، فإنه سيصبح أثقل، و سيصبح أفق الحدث العائد له أكبر، و بالتالي فإن الانتروبية تعود مرة أخرى للواجهة.
و ظهرت فيما بعد مشكلة أخرى تتعلق بالانتروبية، فالانتروبية نفسها ترتبط بدرجة الحرارة، و إذا كان للثقب الأسود أي انتروبية، فإنه يجب أن يكون له حرارة، و وجود الحرارة نفسها يعني أن الجسم نفسه يجب أن يشع! لحل هذا التناقض الظاهري، فقد لجأ هوكنغ لفيزياء الكم، فوفقاً لمبدأ الارتياب، فإن الخلاء التام لا يكون فارغاً، بل يكون مليئاً بانبثاقات كمومية تستمد مقدرتها من طاقة “مستعارة”، و هذه الطاقة تعار مجاناً طالما أنها سوف تعاد بسرعة كافية – أي قبل أن تلحظها الطبيعة، و بالتالي فإذا وقع جسمان في الثقب الأسود، فإن كلاهما سيعاني خسارة في الطاقة، بينما إذا هوى جسم وحيد في الثقب الأسود، فإن الثقب الأسود سيستطيع امتصاص الطاقة المستعارة، و الجسم الآخر سيبدو حراً طليقاً، و بالنسبة لراصد بعيد، سيبدو الأمر و كأن الثقب الأسود قد أشع جسيماً.
و في علاقة الثقب الأسود ببداية الكون و الانفجار العظيم، فقد اقترح هوكنغ أنه بعد الانفجار العظيم مباشرةً أسفرت تركيزات معزولة من الحرارة و الضغط عن تشكل الكثير من الثقوب السوداء الصغيرة، و التي يبلغ قطر الواحدة منها قطر البروتون نفسه، إلا أنها تملك كتلة هائلة تعادل ملايين الأطنان، و بينت حسابات هوكنغ أن درجة حرارة الثقب الأسود تتناسب عكساً مع كتلته فكلما كان الثقب أصغر كلما كانت حرارته أكبر و إشعاعه أعلى، و لهذا لا بد أن تكون رؤية الثقوب السوداء الصغيرة أسهل من رؤية الكبيرة، و هو ما أكدته المعطيات الحديثة المسجلة من التلسكوبات الفضائية و الرحلات الفلكية.
و لعل واحدة من أكثر الأفكار ثوريةً في سبيل تفسير عمل الثقوب السوداء، هي تشبيهه بنظام حاسوبي كبير يقوم بمعالجة المعلومات، فتفسيرات هوكنغ للثقوب السوداء، و على الرغم من تقدمها، فإنها لا تزال تعطي تفسيرات ضبابية حول مصير الجسم ضمن الثقب الأسود، و ما الذي سيحل به، هل سيفنى؟ هل سيتلاشى؟ و في سبيل اقتراح حل يتوافق مع قوانين الطاقة، و قوانين الميكانيك الكمومي، تم اللجوء لفكرة آينشتاين القديمة في أن “الثقوب السوداء هي نوافذ بين كونين” و تم اقتراح تفسير على أن الثقب الأسود هو عبارة عن نظام حاسوبي ضخم، دخله هو الأجسام الفلكية التي ندركها نحن، و بأبعادنا نحن، و خرجه أجسام فلكية أخرى، بخواص أخرى، ضمن كون موازي!
حديثاً، تم اكتشاف العديد من الأمور المذهلة و المتعلقة بالثقوب السوداء، فهناك ثقوب سوداء حجمها الفعلي يعادل حجم مئة شمس من شمسنا و غير آلاف و ملايين، إلا أن آخر الاكتشافات الحديثة بينت وجود ثقب أسود يبلغ من الحجم 18 مليار مرة حجم شمسنا! و يدور حوله ثقب آخر على مسافة سنة ضوئية واحدة يبلغ حجمه 100 مليون مرة حجم شمسنا، و كلاهما يقعان في مركز الكوازارOJ287.
الجندي المجهول Unknown Soldier
في سياق الحديث عن الثقوب السوداء، يذكر اسم العلماء و المكتشفين و المخترعين، إلا أن هناك جندياً مجهولاً تجدر بنا تحيته نظراً لخدماته الجليلة في مجال الثقوب السوداء…إنه التلسكوب الفضائي الأمريكي هبل Hubble Telescop، و الذي اطلق تيمناً باسم عالم الفلك الأمريكي ادوين هبل Edwin Hubble(والذي قدم البرهان الفعلي لنظرية النسبية العامة لآينشتاين)، حيث أطلق تلسكوب هابل في العام 1990 ليرصد الفضاء الكوني بدقة عالية جداً، حيث أن الرصد من الكرة الأرضية هو شبيه بالنظر إلى شجرة من داخل بركة ماء، أما الرصد الفضائي فيقدم وضوحاً هائلاً، و قد قدم التلسكوب العديد من النماذج لثقوب سوداء في مجرات جديدة خصوصاً في العنقود NGC 1275 و العنقود M100 و العنقود M87 الذي اكتشف فيه يقب أسود كتلته تعادل كتلة ثلاثة بلايين شمس…و تمكن هبل من رصد ثقي أسود مندس في محور كل مجرة تقريباً…و قد أفادت الصور التي مدنا بها هبل في التأكيد أنه هناك ارتباط وثيق بين كتلة الثقب الأسود الضخم و كتلة الانتفاخ الكروي للنجوم المحيطة بمركز المجرة… و يوحي مثل هكذا ارتباط أن تكون و تطور المجرة و ثقبها الأسود مرتبطان ارتباطاً وثيقاً.
منذ حوالي 4 أعوام، فإن التلسكوب الأكثر تطويراً و حداثةً وهو تلسكوب كبلر، قام باستلام الراية من هابل و مدنا بالعديد من الصور و الحقائق حول الكون بفضل تقنياته الأكثر حداثة و دقة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إلى هنا تكون قد انتهت سلسلة الثقوب السوداء، و نأمل أن نكون قد وفقنا في تقديم فكرة عامة و شاملة حول موضوع الثقوب السوداء، و نشأتها، و علاقتها بالكون و نشأته و كيفية تشكله، و سنستمر معكم في الأيام المقبلة، بنقل آخر الأفكار و التطورات المتعلقة بموضوع الثقوب السوداء، فابقوا معنا على موقع “الفيزيائيون”
تحرير: ماريو رحال
المصادر و المراجع:
1- سلسلة الثقوب السوداء على موقع عالم الالكترون www.4electron.com
2- الدقائق الثلاث الأولى من عمر الكون – تأليف ستيفن واينبرغ – منشورات دار طلاس – دمشق، سورية
3- البحث عن اللانهاية في أسرار الكون – تأليف غوردون فريزر و انجة سيلفياك و تقديم سيتفن هوكنغ – منشورات المعهد العالي للعلوم التطبيقية و التكنولوجيا – دمشق،سورية
4-مجلة العلوم – الترجمة العربية لمحلة Scientific American – المجلد 23 – العددان 9/10 – 2007
5- مجلة العلوم – المجلد 22 – العددان 11/12 – 2006–