تلقيت خطابا منذ بضعة أيام، كان مكتوبا بخط سئ تصعب قراءته. مع ذلك حاولت أن أفهمه فى حال ثبتت أهميته.
فى أول جملة، أخبرنى الكاتب أنه متخصص فى الأدب الإنجليزى، ولكنه أحس أنه بحاجة أن يدرسنى العلم التجريبى.

(تنهدت قليلا، فأنا أعلم القليل من متخصصى الأدب الإنجليزى الذين باستطاعتهم تلقينى العلم التجريبى، لكنى على دراية شديدة بمدى جهلى وعلى استعداد تام للتعلم من أى شخص لذلك تابعت القراءة.)

يبدو أنه فى إحدى مقالاتى العديدة، أبديت سرورا بالعيش فى القرن الذى فهمنا فيه أساسيات الكون.
لم أتعمق فى تفاصيل الأمر، لكن ما عنيته هو أننا الآن نعلم القوانين الأساسية التى تحكم الكون، بالإضافة الى علاقات الجاذبية المتبادلة بين مكوناته الإجمالية، كما توضح نظرية النسبية التى تم التوصل إليها بين عامى 1905 و 1916.
نعرف أيضا القوانين الأساسية التى تحكم الجسيمات تحت الذرية وعلاقاتها المتبادلة، حيث أن هذا تم توصيفه بعناية من خلال نظرية الكوانتم المكتشفة بين عامى 1900 و 1930.
بلإضافة إلى ذلك، فقد وجدنا أن المجرات و عناقيد المجرات هى الوحدات الأساسية المكونة للكون كما اكتشف بين عامى 1920 و 1930.

هذه هى اكتشافات القرن العشرين كما ترى.
الشاب المتخصص فى الأدب الإنجليزى – اقتباسا من كلامى – أخذ يحاضرنى مرارا أنه فى كل قرن ظن الناس أنهم قد فهموا الكون أخيرا، وفى كل قرن ثبت خطأهم. تبعا لذلك، الشئ الوحيد الذى يمكننا قوله عن معارفنا الحديثة هى أنها غير صحيحة. واقتبس الشاب من كلام سقراط – الذى منحته كاهنة دلفى لقب أكثر رجال اليونان حكمة- قوله :
“لو كنت أكثر الرجال حكمة، فذلك لأنى وحدى أعلم أنى لا أعلم شئ” مما يعنى ضمنيا أننى أحمق لأنى ظننت أننى أعلم الكثير.

كانت إجابتى عليه “جون، عندما ظن الناس أن الأرض مسطحة، كانوا مخطئين. عندما ظن الناس أن الأرض كروية، كانوا مخطئين. لكن إذا كنت تعتقد أن خطأ الظن بكروية الأرض يساوى خطأ الظن بكونها مسطحة، إذن فنظرتك أكثر خطئا من الظنين مجتمعين.”
المشكلة الكبرى هى ظن الناس أن “الصواب” و”الخطأ” مطلقين، أن كل شئ غير صحيح بشكل كامل هو خاطئ بشكل كلى.
لكننى لا أعتقد فى ذلك. يبدو لى أن الصواب والخطأ هما مفهومان غامضان، وسوف أخصص هذا المقال فى توضيح سبب ذلك.
عندما يخبرنى صديقى خبير الأدب الإنجليزى الشاب أنه فى كل قرن ظن العلماء أنهم قد فهموا الكون كانوا على خطأ، ما أريد معرفته هو إلى أى مدى كانوا مخطئين؟ هل كانوا مخطئين بنفس الدرجة؟ لنضرب مثال.

فى الأيام الأولى للحضارة، كان الشعور السائد أن الأرض مسطحة. لم يكن ذلك لأن الناس كانوا أغبياء، أو أنهم كانوا يصدقون السخافات عن قصد. لقد شعروا أنها مسطحة بناء على دليل. لم يكن الأمر هو “أنها تبدو كذلك”، لأن الأرض لم تبد مسطحة، لقد كانت وعرة بشكل فوضوى، بتلالها ووديانها ومنحدراتها وما الى ذلك.
بالطبع كان هناك سهول – على مساحات محدودة – حيث بدا سطح الأرض مسطح. أحد هذه السهول كان فى منطقة دجلة والفرات، حيث قامت أول حضارة – اعتمدت على الكتابة – حضارة سومر.
ربما كان المظهر المسطح هو ما أقنع السومريين الأذكياء بتقبل التعميم بأن الأرض مسطحة؛ حيث أنك لو قمت بتسوية المرتفعات والمنخفضات سوف يتبقى لك سطح مستوى. ساهم فى تدعيم الفكرة حقيقة كون المساحات الممتدة من المياة (البرك والبحيرات) كانت تظهر بشكل مستو فى الأيام الهادئة.

طريقة أخرى للنظر إلى الأمر هى التساؤل عن مدى تقوس سطح الأرض عبر مسافة كبير، ما حجم الإنحراف – فى المتوسط – عن الاستواء الكامل.
نظرية تسطح الأرض كانت ستوحى بعدم انحراف السطح عن استواءه نهائيا، أن مقدار التقوس هو 0/الميل.
بالطبع نحن نعرف الآن أن نظرية تسطح الأرض خاطئة؛ خاطئة بشكل كبير، تماما.
لكنها ليست كذلك، تقوس الأرض هو تقريبا 0/الميل، لذا فرغم خطأ نظرية تسطح الأرض، يحدث أنها صحيحة بشكل تقريبى. لهذا استمرت النظرية طويلا.
كان هناك أسباب بالتأكيد لكى تصبح نظرية تسطح الأرض غير مرضية، حوالى 350 قبل الميلاد، لخصهم الفيلسوف اليونانى أرسطو.

أولا، تختفى نجوم معينة الى ما وراء نصف الكرة الجنوبى عندما يسافر الشخص شمالا، والى ما رواء نصف الكرة الشمالى حينما يسافر جنوبا.
ثانيا، ظل الأرض الساقط على القمر أثناء خسوف القمر كان دائما قوس من دائرة.
ثالثا، هنا على الأرض نفسها، كانت السفن تختفى فى الأفق – هيكلها أولا – فى أى اتجاه تبحرفيه.
الملاحظات الثلاثة جميعا لم يكن من الممكن تفسيرها بشكل منطقى باعتبار أن الأرض مسطحة، لكن يمكن ذلك على اعتبار كون الأرض كروية.
بالإضافة إلى ذلك، اعتقد أرسطو أن كل المواد الصلبة تميل للتحرك فى اتجاه مركز مشترك، وإذا ما تحركت المواد الصلبة بهذا الشكل ستنتهى إلى شكل كرة. حجم معين من المادة الصلبة – فى المتوسط – أقرب الى مركز مشترك اذا ماكان كرة أكثر من أى شكل آخر.

بعد أرسطو بنحو قرن، لاحظ الفيلسوف اليونانى إراتوستينس أن الشمس تلقى ظلالا مختلفة الأطوال عند دوائر العرض المختلفة (كل الظلال كانت لتكون بنفس الطول اذا كانت الأرض مسطحة). ومن الفرق بين أطوال الظلال، استطاع حساب محيط الكرة الأرضية والذى قدر بـ 25,000 ميل.
درجة تقوس تلك الكرة هو حوالى 0.000126/ميل، وهو مقدار يقترب كثيرا من الصفر، كما ترى، ولم يتم قياسه بسهولة بالطرق التى يملكها القدماء. الفارق الضئيل بين 0 و 0,000126 يفسر حقيقة أنه مر وقت طويل لكى ننتقل من الأرض المسطحة إلى الأرض الكروية.
تذكر، حتى فارق ضئيل كالفارق بين 0 و 0,000126 يمكنه أن يكون شديد الأهمية. هذا الفارق يتصاعد. لا يمكن تعيين الأرض عبر مساحات كبيرة بأى دقة على الإطلاق اذا لم يؤخذ الفارق فى الاعتبار واذا لم تعتبر الأرض كروية وليست مسطحة. الرحلات البحرية الطويلة فى المحيط لا يمكن الافتراض بأى طريقة منطقية تحديد موقع الشخص فى المحيط الا اذا كانت الأرض كروية وليس مسطحة.

علاوة على ذلك، نظرية الأرض المسطحة تفترض بشكل مسبق احتمالية وجود أرض لا نهائية، أو وجود نهاية لذلك السطح. لكن نظرية الكرة الأرضية تفترض أرض لا منتهية ومحدودة فى نفس الوقت، وهى الفرضية التى تتسق مع كل الاكتشافات التالية.
لذا، على الرغم من كون نظرية تسطح الأرض مخطأة بشكل طفيف وهى تحسب لمخترعيها، مع اعتبار كل ذلك، لكنها خاطئة بشكل كافى لكى تهمل لصالح نظرية الأرض الكروية.
ومع ذلك، هل الأرض كرة؟

لا، ليست كرة؛ ليس بالمعنى الرياضى الدقيق. الكرة لها خواص رياضية محددة، على سبيل المثال، كل الأقطار (وهى كل الخطوط المستقيمة التى تمر من نقطة على سطح الدائرة الى نقطة أخرى على السطح مرورا بالمركز) لها نفس الطول.
لكن هذا ليس صحيحا بالنسبة للأرض. الأقطار المختلفة للأرض تختلف أطوالها.

ما الذى أعطى الناس فكرة كون الأرض ليست بكرة؟ بدءا، الشمس والقمر لهم حدود دائرية تماما فى حدود المقاييس الأولية للتلسكوب قديما.هذا يتفق مع افتراض أن الشمس والقمر دائريين تماما.
على الرغم من ذلك، عندما شوهد المشترى وزحل للمرة الأولى باستخدام التلسكوب، اتضح سريعا أن حدود تلك الكواكب لم تكن دائرية، لكنها بيضاوية الشكل. معنى هذا أن المشترى وزحل ليسوا كرات حقيقية.
أثبت اسحق نيوتن، نحو نهاية القرن السابع عشر، أن جسم هائل سوف يشكل كرة تحت ضغط قوى الجاذبية (تماما كما افترض أرسطو)، لكن فقط فى حالة عدم دورانه. أما فى حالة دورانه، فإن قوة الطرد المركزى ىسوف تدفع مواد الجسم عكس الجاذبية، وسوف يزداد هذا التأثير كلما تقدمت نحو خط الإستواء. سوف يزداد أيضا التأثير كلما زادت سرعة دوران الجسم الدائرى، المشترى وزحل يدورون فى الحقيقة بسرعة كبيرة.

الأرض تدور بسرعة أقل كثيرا من المشترى وزحل، لذا يجب أن يكون التأثير أقل، لكنه مازال موجود. القياسات الحقيقية لتقوس الأرض تم قياسها فى القرن الثامن عشر وأثبتت صحة افتراض نيوتن.
الأرض منبعجة عند خط الإستواء، بطريقة أخرى، مسطحة عند القطبين. انها “جسم شبه كروى مفلطح” أكثر من كونها كرة. معنى هذا أن الأقطار المختلفة للأرض تختلف فى الطول. القطر الأطول هو أى قطر يمتد من نقطة على خط الإستواء إلى النقطة المقابلة على خط الإستواء. هذا “القطر الإستوائى” يساوى 12,755 كيلومتر (7,927 ميل). القطر الأقصر هو الذى يمتد بين القطب الشمالى والقطب الجنوبى وهذا القطر القطبى يساوى 12,711 كيلومتر (7,900 ميل).
الفرق بين أطول الأقطار وأقصرها هو 44 كيلومتر (27 ميل)، وهذا يعنى أن انبعاج الأرض (ابتعادها عن الشكل الكروى) هو 44/12755 أو 0.0034، بالتقريب 1/3 من 1%.

بشكل آخر، سطح مستو تكون درجة تقوسه 0/الميل فى أى مكان. أما على السطح الكروى للأرض، التقوس يساوى 0.000126/الميل فى أى مكان (أو 8 انش/الميل). أما على سطح الأرض الشبه كروى المنبعج، التقوس يتدرج من 7,973 انش/الميل إلى 8.027 انش/الميل.
نسبة تصحيح الخطأ عند الإنتقال من الكروية إلى الشبه كروية المنبعجة أقل كثيرا منها عند الإنتقال من المسطحة إلى الكروية، من ثم؛ فإنه على الرغم من خطأ فكرة كروية الأرض فإنها ليست خاطئة بالمعنى الدقيق بنفس قدر خطأ فكرة تسطيح الأرض.
حتى فكرة أن الأرض شبة كروية مفلطحة خاطئة، بالمعنى الدقيق للكلمة. فى عام 1958، دار القمر الصناعى فانجارد Vanguard”” الذى وضِعت فيه حول الأرض، كان قادر على قياس قوة جذب الأرض – ومن ثم شكلها – بدقة غير مسبوقة. اتضح أن الإنبعاج الإستوائى جنوب خط الإستواء أكثر انبعاجا منه شمال خط الإستواء، ومستوى سطح البحر عند القطب الجنوبى كان أقرب قليلا الى مركز الأرض من مستوى سطح البحر عند القطب الشمالى.

لم يكن هناك من طريقة لوصف ذلك سوى القول بأن الأرض كانت على شكل كمثرى، فى التو قرر كثير من الناس أن الأرض لم تكن تشبه الكرة ولكن كانت بمثابة ثمرة كمثرى بارتلت متعلقة فى الفضاء. فى حقيقة الأمر كان فارق الإنحراف بين الكمثرى وشبه الكرة المنبعجة لا يتعدى عدد من الياردات وليس عدد من الأميال، وقيمة تعديل التقوس كانت جزء من ملايين من الانش/ الميل.
باختصار – يا صديقى خبير الأدب الإنجليزى الذى يعيش فى عالم ذو عقلية من الصواب المطلق والخطأ المطلق- من الممكن أن تعتقد أنه اذا كانت كل النظريات خاطئة، اذن يمكن أن نعتقد الأرض كروية الآن، لكن مكعبة القرن القادم، و شكل مفرغ عشرينى الوجوه القرن الذى يليه، وعلى شكل كعكة فى القرن الذى يليه.
ما يحدث حقيقة هو أن العلماء عندما يعثرون على مفهوم جيد فإنهم يعملون على تحسينه بشكل تدريجى وتمديده بدقه أكبر وأكبر كلما تحسنت أدواتهم للقياس. النظريات ليس خاطئة بقدر ماهى ناقصة.

يمكن الإشارة إلى ذلك فى كثير من الحالات وليس فقط شكل الأرض. حتى عندما يبدو أن نظرية ما تمثل ثورة، فهى عادة ما تنشأ عن تحسينات صغيرة. إذا كانت النظرية تحتاج أكثر من تعديلات صغيرة لم تكن لتصمد.
كوبرنيكوس بدل من فكرة النظام المتمركز حول الأرض إلى فكرة النظام المتمركز حول الشمس. عندما فعل ذلك، فهو بدل من شئ كان واضح إلى شئ بدا سخيفا. على الرغم من ذلك، كان الأمر يتعلق بإيجاد طريقة أفضل لحساب حركة الكواكب فى السماء، وفى نهاية الأمر تم إهمال نظرية مركزية الأرض، لقد استمرت النظرية القديمة وقت طويل لأن نتائجها كانت جيدة بمقاييس هذا العصر.
مرة أخرى، بسبب كون التكوينات الجيولوجية للأرض تتغير ببطئ شديد كذلك تطور الأحياء عليها فقد بدا منطقى فى البداية أنه لم يكن ثمة تغير، وأن الأرض والحياة عليها دائما كانت موجودة كما هى اليوم. إذا كان الحال كذلك، فلن يكون هناك فرق اذا ماكان عمر الأرض والحياة عليها بلايين السنين أو آلاف. الآلاف كانت أسهل فى الإدراك.
ولكن عندما أوضحت الملاحظات الدقيقة أن الأرض والحياة عليها تتغير بمعدل متناهى فى الصغر ولكنه لا يساوى صفر، اتضح حينها أن الأرض والحياة عليها لابد أن تكون قديمة جدا. ظهر علم الجيولوجيا الحديثة وفكرة التطور البيولوجى إلى الوجود.

إذا ما كان معدل التغير أسرع، كان علم الجيولوجيا والتطور وصل إلى الحالة الحالية فى أزمنة قديمة. فقط كون الفارق بين معدل التغير فى كون ثابت ومعدل التغير فى كون تطورى هو معدل بين الصفر وقيمة أقرب ما تكون من الصفر، هو ما يعطى أنصار نظرية الخلق الفرصة لنشر حماقاتهم.
ومع تضاءل التحسينات فى النظرية ، حتى أقدم النظريات كانت لتكون صحيحة بشكل يكفى لقيام بتحسينات، تحسينات لا تمحوها تحسينات لاحقة.
قدم اليونانيين فكرة خطوط الطول ودوائر العرض، كمثال، وقاموا بصنع خرائط منطقية لحوض البحر الأبيض المتوسط حتى بدون أخذ كروية الأرض فى الإعتبار، ومازلنا إلى اليوم نستخدم خطوط الطول ودوائر العرض.
كان السومريون غالبا أول من أسس لفكرة انتظام حركة الكواكب وامكانية التنبؤ بها، واستمروا فى ايجاد طرق تمكنهم من ذلك، بالرغم من افتراضهم أن الأرض هى مركز الكون. تطورت أدواتهم للقياس بشكل هائل لكن بقى المبدأ.
بشكل طبيعى، النظريات التى يمكن اعتبارها خاطئة الآن بالمفهوم البسيط لصديقى خبير الأدب الإنجليزى، نحتاج فقط إلى اعتبارها غير كاملة.

ترجمة: هبة خطاب

المصدر:
http://chem.tufts.edu/answersinscience/relativityofwrong.htm

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *