رؤية الفيزياء الكلاسيكية للضوء والاشعاع

(3.3) النظرية الموجية لهيجنز:

في غضون تلك الفترة تقريباً، والتي قدم فيها نيوتن اقتراحاته حول الطبيعية الجسيمية للضوء؛ أي، بوصفه تدفقاً Flux أو تيارًا Stream من الجسيمات المتناهية الصغر، فإن نظرية أخرى كانت قيد التكوُّن في هولندا Holland عن طريق كريستيان هيجنز Christian Huygens (1629– 1695). فلقد قدم هيجنز اقتراحاً مضادًا تمامًا لاقتراح نيوتن عن الضوء الذي لم يرى فيه نيوتن أي سمة موجية. وعلى العكس من ذلك، فإن هيجنز قد افترض أن الضوء ذي سمة تموجية تماماً، حيث أن أشعة الضوء يمكنها أن تنحني وتلتقي ثانية؛ حيث يقول:
“إن الضوء ينتشر، مثلما ينتشر الصوت، عن طريق الموجات والأسطح الكروية. ولذلك فإنني أسميها بالموجات من خلال تشابهها مع تلك التي تُرى موجودة في الماء عندما يُلقى حجر فيه”.

ومن هنا يتبين لنا، أن هيجنز قد افترض، ومنذ أبحاثه الأولى عن الانكسار في عام 1652، أن انتشار الضوء يكون متماثلاً مع انتشار موجات الماء عندما يلقى حجر في بركة ساكنة، ولهذا فإن النمط الناتج يَكُون عبارة عن سلسلة من الموجات الصغيرة المتحدة المركز Concentric ripples، والذي تكون فيه ذُرَىhills الموجات منفصلة بشكل مُطرد عن طريق المسافة التي تسمى الآن بالطول الموجي Wave length.

على أية حال فإن هذه التماثلات بين موجات الضوء وموجات الماء والصوت هي مقبولة ظاهرًا، ولكنها تثير تساؤلاً هاماً وهو: ما الوسط الذي يكون مُتطلبا من أجل انتشار موجات الضوء ؟ إنه لمن الطبيعي القول، أنه عندما نلقي حجرًا في الماء، فإنه يحدث موجات فيه. ومن ثم، فلكي تنتشر موجات الماء وتنتقل من مكان لآخر، فإنها تتطلب وجود وسط تنتشر فيه؛ أي، الماء.كما أن موجات الصوت تستلزم وسطًا؛ أي، الهواء، لكي تنتشر وتنتقل من مكان لآخر. فصوت الكمان Violin، على سبيل المثال، يصل إلى آذاننا بسبب اهتزاز أوتاره strings، ثم تنتشر تلك الاهتزازات vibrations عبر اصطدامها جزيئات الهواء، والتي تُحدث موجات متضاغطة تنتقل إلى الأذن.

ومن هنا، اقتيد هيجنز إلى ضرورة أن يكون هناك وسطا ما، من أجل انتقال موجات الضوء. وبطبيعة الحال، فانه لا يمكن أن يكون ذلك الوسط هو الهواء والذي تحدث فيه موجات الصوت، حيث أن الضوء يمكنه أن يمر عبر الفراغ. وبدلا من ذلك، فإن هيجنز قد سَلَّمَ، بأنه من الضروري وأن يكون هناك شكل آخر للمادة؛ أي، مادة أثيرية Ethereal matter، ذات مرونةelasticity مطلقة باعتبارها أداة انتقال the vehicle الضوء. ومن ثم فإن هيجنز قد افترض وجود الأثير بوصفه جوهرا ماديا، متابعًا في ذلك ديكارت، والذي يكون مؤلفًا من جزئيات صغيرة جدًا وذات استجابة سريعة جدًا في نقلها للضوء، والذي يشكل كل منها مركزا لحركة ارتجافية. وافترض أنه يكون موجودا في تلك الأجزاء من الفضاء التي تعتبر ظاهريا خاوية.

هكذا إذن شكلت فرضية الإثير قلب وجوهر النموذج الموجي لهيجنز والركيزة الأساسية له. فلقد افترض هيجنز، مثل ديكارت ونيوتن وآخرين، أن الفضاء برمته يعمه الإثير بوصفه وسطا مرنا رقيقاً جداً، من أجل تفسير انتشار الضوء، والذي يتكون من جسيمات متجاورة ذات أحجام متساوية، ويعتبر كل جسيم منها مركزا لموجة كروية. ومن ثم تنتقل موجات الضوء عن طريق تتابع حركات تلك الجسيمات، الموجودة كصف في سلسلة، والتي تحمل كل منها الموجات الكروية في جميع الاتجاهات. وبهذه الطريقة تنتقل وتنتشر موجات الضوء.ولكن هذا الانتقال لا يتم بشكل منتظم، ولكن على حد وصف هيجنز :
“كطرقاتpercussions عند مراكز هذه الموجات، والتي لا تمتلك أي تتابع منتظم. إنه ليس من الضروري وأن نفترض أن الموجات نفسها تتبع كل واحدة منها الأخرى بمسافات متساوية”.

ومن هنا يتبين لنا أن هيجنز، أيضا كسلفه هوك، لم يقل بدورية periodicity موجات الضوء. بالأحرى، فإن موجات هيجنز هي بمثابة نبضات منفصلة isolated pulses، والتي تكون متولدة عن طريق اصطدام جسيمات الإثير بها والتي تتبع كل واحدة منها الأخرى بفترات غير منتظمة.

إن النتيجة المنطقية المترتبة على حقيقة أن انتشار موجات الضوء، طبقا لهيجنز، يكون بشكل تتابعي، والتي تتبع كل واحدة منها الأخرى بفترات غير منتظمة، هي أن الضوء لابد وأن يستغرق زمنا ما لكي ينتقل من مكان لآخر؛ أي، أن هناك سرعة محددة للضوء، وذلك خلافا للتصور الديكارتي القائل بالانتشار الفوريinstantaneously للضوء.

والآن، إذا كان الضوء ينتقل على صورة موجات في الايثير، طبقاً لهيجنز، فما نوع الحركة التي تنتشر وتنتقل بها موجات الضوء ؟ نحن نعلم أن هناك نوعان من الحركة الموجية: حركة طولية Longitudinal motion، وحركة مستعرضة Transverse motion، فبينما تنتمي حركة موجات الصوت إلى النوع الأول، فإن حركة موجات الماء تنتمي إلى النوع الأخير.
فبالنسبة لموجات الصوت، فإن كل جسيم للوسط الحامل لها؛ أي، الهواء، يتحرك ذهاباً وإياباً على طول الاتجاه الذي تنتشر فيه الموجات؛ أي أن، سعة الموجةamplitude تكون موازية لاتجاه انتشارها. ولذلك سميت بحركة طولية. فعلى سبيل المثال فان موجات الصوت الصادرة من جرس، مثلا، تصل إلى آذاننا؛ بسبب أن كل جسيم للهواء يتحرك بالتناوب مقتربا ومبتعدا عن الجرس في اتجاه انتشار الموجة. لكن الأمر مختلف بالنسبة لموجات الماء، حيث أنه، وإن كانت موجات الماء تنتشر على طول سطح الماء، فإن الجسيمات المفردة للماء لا تنتشر بمثل تلك الطريقة؛ إن حركة تلك الجسيمات تكون لأعلى وأسفل، وبزاويا عمودية على السطح وعمودية على اتجاه انتشار الموجة؛ أي أن، سعة الموجة تكون عمودية على اتجاه انتشارها، ولذلك سميت بحركة موجية مستعرضة.

أما فيما يتعلق بموجات الضوء، فبينما ذهب هوك Hooke، من قبل، إلى أن موجات الضوء تكون متماثلة تماما مع موجات الماء، ومن ثم فإنه نسب إليها حركة موجية مستعرضة؛ فإن هيجنز قد رأى، وعلى العكس من هوك، أن موجات الضوء تكون أكثر شبه بموجات الهواء، ومن ثم فإنه نسب إليها حركة موجية طولية. ومن ثم فإن فكرة التذبذبات العمودية على اتجاه الانتشار ظلت غريبة على هيجنز، والذي رأى أن جزيئات الإثير تتحرك باتجاه الشعاع.
على أية حال، فان النظرية الموجية لهيجنز قد نجحت في وصف وتفسير عدد من الخصائص المعروفة للضوء مثل الانعكاس والانكسار، بشكل مقنع، وان لم تؤد لإقناع الجميع بها، في تفسيرها لانتشار الضوء في خطوط مستقيمة.

يتضح لنا مما سبق ملامح منهجية هيجنز، فبخلاف نيوتن، فإنه لم يكن ملتزماً على الإطلاق بالتعاليم البيكونية. فلم يحاول هيجنز صنع قائمة كاملة عن خصائص الضوء، عن طريق التجربة، مثلما فعل نيوتن. كما أنه لم يكن ليعتقد بأن قائمة كهذه تكون ضرورية من أجل أغراضه. إن اهتمامه الوحيد كان إعطاء تفسير ميكانيكي واضح لخصائص قليلة عن الضوء، والتي اعتقد أن فلاسفة طبيعيين آخرين قد أخفقوا في تفسيرها.

وفي الحقيقة فإن ما كان يحاول هيجنز تفسيره هو “وقائع الخبرة”، ولكنه لم يكن ليدعي في أي موضع من بحثه أنه ينطلق من تلك الوقائع للبرهنة على النظرية التي قدمها. بالأحرى، فإن مناقشاته ترتكز على توضيح كيف أن هذه الوقائع تتفق مع مفاهيمه أكثر من تلك المفاهيم التي كانت مفترضة عن طريق الفلاسفة الطبيعيين الآخرين قبله. ولذلك فإن نقطة بدايته كانت المشكلات التي تنبثق من النظريات السابقة أكثر من الوقائع ذاتها. (على سبيل المثال: مشكلة الانتقال الفوري للضوء في النسق الديكارتي). وعن طريق فحص الصعوبات المتضمنة في الفروض الموجودة من قبله؛ فإنه اقتيد إلى تعديل تلك الفروض، أو اقتراح فروض جديدة. ومن ثم فإنه يشرع في إيضاح كيف يمكن لفروضه أن تفسر التجارب. إنه عادة ما يقدم فروضه بوصفها تفسيرات تخمينية Conjectural explanation للتجارب. وبالاختصار فان منهج هيجنز التقليدي كان دائم الانطلاق من الفرض إلى التجربة وليس العكس.

وبكلمات أخرى، فإنه يمكننا القول، أن السمة العامة لمنهجية هيجنز تكمن في تبنيه لما عرف بوصفه المنهج الفرضي الاستنباطي Hypothetico-deductive-Method بخلاف المنهج الاستقرائي inductive-Method، المتبنى عن طريق نيوتن، والذي يرتكز على الانطلاق من فروض توحي بها معطيات التجربة وملابسات الظواهر المدروسة لبناء نظرية عن طريق الاستنباط؛ نظرية لا يمكن الأخذ بها كنظرية صحيحة إلا إذا أكدتها التجربة؛ أي، تاركًا مسألة صحتها أو عدم صحتها للتجربة وللتجربة وحدها.

على أية حال فإنه يبدو لنا، أنه بحلول نهاية القرن السابع عشر، قد بزغت نظريتان متعارضتان في مجال البصريات، حول طبيعة الضوء؛ أي، النظرية الجسيمية والنظرية الموجية، حيث تبنت كل منهما نسقاً مفاهيمياً متعارضاً مع الآخر. فلقد بدا الجسيم، طبقاً للتصور النيوتيني، لكي يكون ذي وجود محدد بإحداثيات محددة تماماً؛ أي، في موضع معين وفي لحظة معينة.كما أن الجسيمات تصطدم وترتد بطاقة متبادلة يمكن حسابها بدقة مطلقة، على الأقل من حيث المبدأ. بينما بدت الموجة، طبقاً للتصور الموجي، لكي تكون منتشرة بشكل غير محدود في مكان ما من الوسط الموجي؛ إنها تكون موجة في ذلك الوسط. ومن ثم فإن انتشار الموجة ينقص بشكل جوهري من تحديد أية إحداثيات لها.

بالإضافة إلى ذلك، فانه لا يوجد شيء في الحركة الموجية يتطابق مع تصادم الجسيمات وارتدادها على الإطلاق. فكرات البلياردو وتموجات البِرْكَة، هي كينونات مختلفة جوهرياً في النوع. ومن ثم بدا أن كُلاً من النظريتين تكونان مستبعدتين تبادلياً. إن كلا منهما لا يمكن أن يكون صحيحًا في الوقت نفسه، حيث أنه يكون من المستحيل تصور إمكانية وصف أي حدث عن طريق كل من هاتين الطريقتين للوصف في نفس الوقت. إن هذه الاستحالة ليست استحالة تصورية فحسب، ولكنها تتضمن أيضًا استحالة ملاحظية notationally impossibility تتعلق بإجراء عمليات حقيقية لإمكانية ملاحظة خصائص الموجة وخصائص الجسيم في نفس الوقت، كما أن اللغات الوحيدة المتاحة، حينئذ، لوصف ديناميكيات الموجة والجسيم تشكل تعارضا حقيقيا.

بيد أن الأمر لم يستمر كثيرا على هذا النحو، من وجود نظريتين متنافستين، تدعي كل منهما أهليتها في وصف وتفسير خصائص الضوء. فعلى الرغم من النجاحات المؤزرة للنظرية الموجية في تفسير الكثير من الظواهر البصرية، فإنها ما لبثت أن سُحقت تماماً تحت وطأة ما أصبح شائعاً بوصفه التأويل الجسيمي النيوتيني للضوء، لكي يُدَشَّن بوصفه التأويل التقليدي Orthodoxal interpretation، مثلما تم التنويه عنه من قبل.

وفي الحقيقة فإن النموذج الجسيمي عن الضوء، قد بدأ بالأُفول مع بداية القرن التاسع عشر، عندما أثرى توماس يونج Thomas Young (1773– 1829) وأوغسطين فرنل Augustine Fresnel (1788– 1827)، الفرض الموجي بأفكار جديدة. حيث اتضح من مساهماتهما أن جميع أنواع الظواهر البصرية المعروفة في ذلك الوقت يمكن تفسيرها بشكل ملائم عن طريق الأفكار الموجية. وبفضل الأفكار الرائعة ليونج وفرنل أصبحت النظرية الجسيمية عن الضوء ذات أهمية تاريخية فقط، كما أصبحت النظرية الموجية ذات سيطرة مطلقة على فيزياء بصريات القرن التاسع عشر. وهذا ما سوف نتناوله في الجزء اللاحق.

تأليف: د. خالد زهرة
مراجعة : Jamal Novelty

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *