سلسلة تعرف على الفيزياء: الحلقة الثالثة (2)

رؤية الفيزياء الكلاسيكية للضوء و الإشعاع
الجزء الثاني: نظرية نيوتن عن الضوء و الألوان

Light dispersion of a mercury-vapor lamp with a prism made of flint glass

رؤية الفيزياء الكلاسيكية للضوء و الإشعاع
الجزء الثاني: نظرية نيوتن عن الضوء و الألوان

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(3.2) نظرية نيوتن عن الضوء والألوان

في خضم هذا الاضطراب الفكري والنظريات المختلفة السابقة عن الضوء والألوان، جاء نيوتن، والذي على حد وصف أينشتين:
“فإن الطبيعة كانت بالنسبة له كتابًا مفتوحًا، والذي تمكن من قراءة حروفه بدون أية معاناة: حيث أن المفاهيم التي استخدمها لتحويل مادة الخبرة إلى نظام بدت أنها تتدفق بشكل تلقائي من الخبرة ذاتها؛ أي، من خلال التجارب التي وضعها في ترتيب بديع”.

على أية حال، فإن نيوتن قد بدأ في عام 1672 بالإدلاء بدلوه حول الضوء، عن طريق أبحاثه التجريبية عن الألوان المنشورية؛ أي، تلك الألوان التي تنتج من تحلل ضوء الشمس بعد مروره عبر منشور زجاجي مثلث الشكل. فبعد سلسلة من التجارب الرائعة على حزمة من ضوء الشمس والتي تمر عبر منشور زجاجي، فإنه اكتشف أن الحزمة كانت متناثرة إلى نطاق ملون من الضوء؛ أي، الطيف Spectrum، وفيه لاحظ نيوتن أن جميع ألوان قوس قزح rainbow كانت موجودة بنفس الترتيب؛ أي، الأحمر فالبرتقالي فالأصفر، فالأخضر، فالأزرق، فالنيلي، فالبنفسجي.

لقد استنتج نيوتن، حينئذ، أن الضوء الأبيض (ضوء الشمس)، ليس متجانسا أو متماثلا، ولكنه يتكون من أشعة مختلفة difform rays والتي بعضها يكون أكثر قابلية للانكسار من الآخر. ومن ثم، فإن اللون الأبيض ليس لونا أساسيا، وإنما هو تراكب لمجموعة من الألوان المختلفة، وعندما يدخل الشعاع في المنشور، فإن الألوان المختلفة تنحرف بمقادير مختلفة، تبعًا لتأثيرات الزجاج المختلفة عليها. وهذا يعني أن اللون الأبيض ليس بخاصية جوهرية لضوء الشمس، حيث أن الضوء المتجانس أو المتماثل يحتفظ بلونه المناسب بشكل تام، والذي لا يمكنه أن يتغير عن طريق انعكاساته أو انكساراته.

ومن هنا، فإن نيوتن قد اقتيد إلى القول بأن الألوان ليست تغييرات أو تعديلات تحدث للضوء، عند انكساره أو انعكاسه، مثلما كان مفترضا بصفة عامة، وبشكل خاص عند هوك، ولكنها خصائص أصلية وفطرية Original and Connate Properties ؛ أي، خصائص للأجزاء المختلفة والتي تختلف درجاتها باختلاف قابليتها للانكسار.

ومن هنا، وعن طريق هذه النتيجة التجريبية، تبدو لنا ملامح منهجية نيوتن في التزامه التام بالتعاليم البيكونية Bocanian teaching، حيث أنه كان دائما ما يشرع في إجراء الملاحظات والتجارب، قبل صياغته للقضايا Propositions التي تكون مشتقة من الملاحظات والتجارب، والتي تكون متميزة عن الفروض hypotheses. فبينما تكون الأولى مشتقة من الخبرة، فإن الأخيرة تكون مخترعة في حالة غياب التجارب الكافية أو “الحاسمة”. ومن ثم فإن نيوتن يكاد يقول لنا: أنه يمكن للمرء عن طريق التجارب الحذرة والدقيقة, لما تقوم به الطبيعة، أو ما قد يتم القيام به عن طريق التجريب، التوصل إلى نظريات والتي تكون متحررة من جميع العناصر الافتراضية. وبذلك فإن نيوتن يقوم بوضع تمييز جوهري بين الاكتشافات Discoveries والنظريات Theories من ناحية، والفروض من ناحية أخرى.

وفي الحقيقة فإن نيوتن كان دائمًا ما يلح على ضرورة عدم افتراض أي شيء قبل البرهنة عليه، والتأكد منه بالتجربة، فهو لم يكن يقبل بالفرضية إلا بعد أن تصبح حقيقة علمية، وقد كان همه الأساسي، أن يُبعد كل القضايا غير القابلة للتمحيص الاختباري، والإبقاء فقط على تلك التي تكون قد أقيمت مباشرة عن طريق الملاحظة.وفي هذا الصدد يصرح نيوتن قائلاً:
“في الفيزياء التجريبية نستمد القضايا من الظواهر، ثم نحولها إلى قضايا عامة، عن طريق الاستقراء. ذلك أن كل مبدأ لا يُستنبط من الظواهر، يبقى مجرد افتراض.والافتراضات مهما كانت ميتافيزيقية أو فيزيقية أو ميكانيكية أو تخمينية، لا يجب قبولها في الفلسفة التجريبية.

على أية حال، فإن نيوتن يخطو الآن خطوة أخرى في بحثه حول طبيعة الضوء ذاته عن طريق إثارة تساؤل هام: كيف يمكن تفسير الانكسارات المختلفة لمجموعة من الألوان الناتجة من التحليل الطيفي للضوء المار عبر الموشور؟

لقد كانت لحظة فارقة، تلك التي لاحظ فيها نيوتن أن أشعة الضوء تسير في خطوط مستقيمة، فافترض أن أشعة الضوء تتكون من أجسام صغيرة جدًا تنبعث من المواد المضيئة، والتي تنتشر في جميع الاتجاهات. وعندما تسقط هذه الأجسام على سطح عاكس أو كاسر للضوء، فإنها لابد وأن تثير بالضرورة اهتزازات في الإيثير، والذي اعتقد أنه يملئ الفضاء تماماً، مثلما يحدث ذلك عند إلقاء الأحجار في الماء. ومن ثم، فإنه لا يكون شيئاً مُتطلباً من أجل إنتاج مجموعة من الألوان ذات درجات مختلفة من القابلية للانكسار، أكثر من افتراض أن أشعة الضوء تتكون من أجسام ذات أحجام مختلفة، حيث أن الأقل منها يحدث اللون البنفسجي وهو اللون الأضعف والأظلم في جميع الألوان، وهو الأكثر سهولة في التحول، عن طريق الأسطح الكاسرة للضوء.كما أن بقية الألوان تكون ذات أجسام أكبر فأكبر، والتي تحدث الألوان الأقوى والأكثر إضاءة، النيلي فالأزرق فالأخضر فالأصفر فالبرتقالي فالأحمر والتي تكون أكثر صعوبة في التحول.

لقد كانت تلك هي الفرضية الأولى التي افترضها نيوتن لتفسير انكسار أشعة الضوء؛ أي، لتفسير الانكسارات المختلفة للألوان التي يتكون منها الضوء الأبيض باعتبارها تتكون من حشد من الجسيمات الصغيرة والسريعة جدًا وغير القابلة للتخيل والتي تكون ذات أحجام مختلفة، والتي تنبثق من الأجسام المضيئة وتتزايد سرعتها بشكل متواصل ( لاحظ هنا روح القانون الأول لنيوتن).

أما الفرضية الثانية التي لجأ إليها نيوتن لتفسير حدوث الانكسار؛ فإنه افترض أن هناك وسط أثيري يملئ الفضاء تماماً، ويكون مماثلاً للهواء، ولكن ذي كثافة أقل وأكثر رقة ومرونة من الهواء. ومن ثم فإن جسيمات هذا الوسط الأثيري تؤثر بقوة مبذولة على جسيمات أشعة الضوء، بما يؤدي لانكسارها؛ أي، أن جسيمات الوسط الأثيري تبذل قوة تقاوم جسيمات أشعة الضوء فتُحدث ارتجافات أو ذبذبات من شأنها أن تستبق الجسيمات أو تزيد أو تنقص من سرعتها، والتي تعوق سيرها في خط مستقيم.وبافتراض ذلك، فإن الايثير يلعب دورًا ثانويًا بالنسبة إلى دور الجسيمات المضيئة ولكنه دور محتوم في كل حال. وقد يحدث الانكسار أيضا عن طريق قوة جاذبية تكمن في جسيمات الجسم الكاسر للأشعة الضوئية (لاحظ هنا روح القانون الثاني للحركة لنيوتن: معدل التغير في الاندفاع (كمية التحرك momentum) يتناسب مع القوة المؤثرة، ويكون في اتجاه هذه القوة).

ومن هنا، وبناء على الفرضيين السالفتين، فإنه يمكننا القول: أن نيوتن قد تبنى ما يمكن اعتباره بوصفه تأويلا ديناميكيا للانكسار؛ حيث أن نيوتن قد افترض أن شعاع الضوء يتصرف طبقا لقوانين الديناميكا التي وضعها سابقاً، والتى تحكم حركة الأجسام العيانية. فلقد اعتبر نيوتن شعاع الضوء بوصفه شيء ما، والذي يمكن أن يكون مُؤَثَرا عليه عن طريق قوة (سواء ما كانت قوة مقاومة جزيئات الأثير، أو قوة جاذبية جسيمات الجسم الكاسر للأشعة الضوئية)، وأن جسيمات ذلك الشعاع تخضع لذات القوانين التي تخضع لها كرات البلياردو في الميكانيكا النيوتينية.

وتأسيسا على ذلك، ترسخت الفكرة القائلة، وكرأي شائع، أن نيوتن قد دعا إلى تبني ما يمكن اعتباره بوصفه وجهة نظر جسيميه عن الضوء، والتي يُعزي في جزء منها إلى مقدرتها على وصف كمي لمجموعة من الظواهر البصرية، وبضمنها قوانين انكسار الضوء، واستمر وصف نيوتن للضوء، باعتباره سيّالاً من الجسيمات، سائدًا حتى بداية القرن التاسع عشر، حيث لم تكن قد ظهرت به أية عيوب واضحة، وأُقصِىَ تمامًا أمر المفهوم الموجي للضوء الذي قد تبناه من قبل هوك وتبناه أيضاً هيجنز معاصر نيوتن.

ولكن في الحقيقة، وخلافاً لتلك اللمحة الأولى، وأيضاً خلافًا للرأي الشائع، فإن نيوتن لم يُقدِّم تصوره الجسيمي عن الضوء بوصفه الحقيقة المطلقة، فلم يكن نيوتن بغافل عن مساهمات جيرمالدي عن حيود الضوء، ولا عن مساهمات هوك التي ألمحت إلى طبيعته التموجية. ولذلك يقول نيوتن :
“إن كنت قد ألمحت إلى أن الضوء هو جسم، فإني لا أؤكده متيقنًا… إنني أُدرك تمامًا أن خصائص الضوء يمكن أن تُفهم لا عن طريق الفرضية التي تُعزى فقط إلىَّ، بل عن طرق شتى أخرى كثيرة، لهذا فقد قررت تفاديها كلها”.

علاوة على ذلك، فإن نيوتن قَدَّم اقتراحاته حول طبيعة الضوء في صورة تساؤلات Queries أو افتراضات hypotheses وليست في صورة قضايا propositions بما يعني أنها لا تُشكل جزءاً من العقيدة التي يؤمن بها عن الضوء والانكسار. فعلى سبيل المثال يتساءل نيوتن:
“ألا تتكون أشعة الضوء من جسيمات صغيرة جداً تنبعث من المواد المضيئة ؟… فالأجسام الشفافة [ للأثير] تؤثر عن بعد علي أشعة الضوء في انكسارها وانعكاسها، وانثناءها. وبالتبادل فإن الأشعة تؤثر عن بعد على أجزاء من تلك الأجسام الشفافة، وهذا الفعل ورد الفعل عن بعدAction and Reaction-at-a-distance يشبه كثيراً جداً قوى الجاذبية بين الأجسام”.

في الحقيقة فإن تحليلاً دقيقاً للنص السابق يؤكد لنا أن نيوتن قد لجأ لافتراض، والذي تم تقريره في صيغة سؤال، أن أشعة الضوء تتكون من جسيمات صغيرة جداً، وذلك لكي يفسر لنا ظاهرة الانكسار، والتي تحدث بمقتضى تأثير عن بعد action-at-a-distance متبادل بين أشعة الضوء وجسيمات الأثير (المفترض أصلاً).

وعلى ذلك، فإن اقتراحاته سواء منها ما يتعلق بمادية الأشعة الضوئية، أو وجود الوسط الأثيري، أو العلاقة الديناميكية بين جسيماتهما ليست أكثر من فروضhypotheses والتي تعبر عن قضايا صحيحة بشكل تقريبي فقط، وقد تكون خاطئة، والتي قد لا تكون مؤيدة عن طريق التجارب. وهذا هو ما قصده نيوتن بمصطلح الفرض hypothesis، حيث يشير به إلى القضايا التي تكون صحيحة بشكل كافSufficiently true فقط، وليس للقضايا التي تكون صحيحة بشكل دقيقaccurately true . فعلى سبيل المثال، فان نيوتن قد استخدم مصطلح الفرض لكي يُعبِّر به عن قضية تتضمن كينونة لا يمكن ملاحظتها مباشرة مثل الأثير، وحيث أن قضية من مثل هذا النوع لا يمكن أن تكون مرتبطة بشكل مباشر بالملاحظة؛ حينئذ، فإنه يصح القول، أن نيوتن كان مُدْرِكاً، بصفة عامة، أن فرضًا يمكنه أن يكون كاذباً، حتى ولو أن النتائج المُشْتقَّة منه تتفق مع الملاحظات.

ومن هنا يمكننا أن نرى، أن نيوتن إنما استخدم كلمة الفرض hypothesis، لكي يشير به إلى قضية المتعلقة بكينونة خفية، مثل الأثير، والتي تكون صحيحة بشكل محتملprobably true ، والتي تكون على العكس من القانون التجريبي الذي يتم التحقق منه والذي يكون صحيحا بشكل يقيني certainly true. إن احتمال أو نقص اليقين بالنسبة لفرض ما، طبقا لنيوتن، إنما يكون بمقتضى حقيقة أنه بدلا عن كونه مستنبطاً من التجارب، فإنه ببساطة يكون مفترضا من أجل تفسير التجارب. ومن هنا يمكن القول، أن نيوتن قدم اقتراحاته حول الطبيعة المادية الجسيمية للضوء، بوصفها ليست أكثر من تأويل ممكن ومقبول لتجاربه.

على أية حال، فإن تأويل نيوتن للضوء، لم يكن التأويل الوحيد الممكن في زمنه، ولم يكن كافيا لأن يُسَلَّم به بالنسبة لجميع وجهات النظر المتعلقة بطبيعة الضوء. كما يمكن القول أيضاً، أن الأفكار النهائية لنيوتن حول طبيعة الضوء كانت قد قُدِّمَت بشكل تخميني تماماً. فطوال كتابه الرئيسي عن البصريات Opticks؛ فإن نيوتن كان مُصِرَّاً على أن نتائجه لا تعتمد على وجهات نظر خاصة حول طبيعة الضوء. وقد حاول بشكل واضح تجنب استخدام الكلمات التي يبدو منها أنها تتضمن وجهة نظر خاصة.

علاوة على ذلك، فإن نيوتن قد رفض اعتبار أن الطبيعة الجسيمية Corporeal Nature للضوء جزء من عقيدته، حيث يقول:
“إنه يكون حقيقياً من خلال نظريتي، أنني أناقش الطبيعة المادية للضوء والذي قمت به بدون أي تأييد مطلق لها… إنها ليست افتراضاً أساسياً، وليست بأي قدر جزءًا منه”.

في الحقيقة فانه يبدو لنا من خلال هذا النص، زيف القول الشائع، أن نيوتن قد أظهر بصيرة هائلة ومعرفة سبقية رائعة في تبنيه للنظرية الجسيمية ورفضه للنظرية الموجية. إن نيوتن في الحقيقة لم يكن قادرًا على الجزم بما إذا كان الضوء جسيمياً، أو تموجياً. إنه عادة ما يبدأ بوصفه يتكون من جسيمات، وينتهي بكونه اهتزازات والتي تحدثها الجسيمات في الاثير. ولكن وصف الضوء باعتباره جسيمات كان بالنسبة له أسهل في التصور من التموجات، والذي يمدنا بتفسير لانتشار الضوء في خطوط مستقيمة، وهي الفكرة التي صارت شائعة حول أن نيوتن قد تبنى الوصف الجسيمي للضوء. ولكن نيوتن لم يقم بهذا أبدًا، وحتى على فرض قيامه بذلك، فإن الإطراء، على أسبقيته تلك، لن يكون جائزاً على الإطلاق. وذلك لأن جميع الوقائع المعروفة عن الضوء لا تتطلب نظرية وحيدة؛ أي، نظرية جسيمية. فكل واقعة بدون استثناء، يمكن تفسيرها من خلال النظرية التموجية. كما أن الوقائع التي ظهر منها أنها غير متلائمة مع النظرية الموجية لم تصبح معروفة إلا في نهاية القرن التاسع عشر (قانون استيفان ـ بولتزمان، قانون فين، قانون بلانك). ولهذا فإن الرفض المزعوم لنيوتن للنظرية الموجية وتبنيه للنظرية الجسيمية لابد وأنه قد أعاق تقدم علم البصريات بشكل خطير جدًا. ومن ثم فإنه لا يستحق المدح أو الإطراء لو أنه قد قام بذلك.

والآن، يرد تساؤل هام؛ لماذا اعتُبر نيوتن بصفة عامة بوصفه مُقترح لوجهة نظر جسيمية عن الضوء ؟ في الحقيقة فإن هذا الفهم يكون مرتكزًا على ثلاثة أسباب:
أولاً: أنه يكون مُبرَّرًا في جزء منه عن طريق اتهاماته المتكررة للفرض الموجي؛ حيث أن نيوتن لم يُسلِّم أبدًا بإمكانية إعطاء تفسير كاف لجميع خصائص الضوء التي أعلنها نتيجة لتجاربه عن الألوان الطيفية، في ضوء الوصف الموجي بمفرده، وبشكل خاص، ظاهرة انتشار الضوء في خطوط مستقيمة.

ثانيًا: لقد رأى نيوتن أن التأويل الجسيمي كان هو التأويل الطبيعي الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه بالنسبة لتصوره حول أشعة الضوء، والذي يمكنه تفسير ظواهر انتشار الضوء في خطوط مستقيمة، وفي تفسيره لظواهر الانعكاس، وأيضًا في تفسيره لظواهر الانكسار، والتي اتضح منها أنه يُعوِّل كثيرًا على رؤية جسيمية؛ حيث أن هذا التأويل قد افترض مسبقا، أن الأشعة الضوئية تخضع لقوانين الديناميكا، والتي طبق فيها فكرة الجاذبية على مجال البصريات، على الرغم من أن نيوتن قد امتنع وتحفظ تحفظًا شديدًا عن الإعلان عن طبيعة الضوء الحقيقية.

ثالثًا: لقد كان من الطبيعي بالنسبة للنيوتينيين؛ أي، أنصار النسق النيوتيني، أن يؤيدوا وجهة نظرة الجسيمية عن الضوء، خصوصًا بعد النجاح المنقطع النظير لذلك النسق على كافة مستويات الوجود المادي، وعلى الرغم من الانتقادات القوية التي وجهها فلاسفة طبيعيون متميزون مثل هوك Hooke، وليبنتز Leibentiz، وايلر Euler، و باراديز Paradies، بالإضافة لهيجنزHuygens نفسه، للنظرية الجسيمية لنيوتن؛ فإن نفوذ نيوتن كان هائلاً، وقد سيطرت وجهة نظره على القرن الثامن عشر بأكمله في ميدان البصريات، وأُغْفِل أمر النظرية الموجية التي اقترحها هيجنز في نفس الوقت على الرغم من صلاحيتها لأن توضع موضع الاختبار، ولكن سمعة نيوتن ومكانته كانت أعظم من أن نناقش.

وفي الحقيقة فإن النيوتينيين قد غضوا الطرف عن العقبات الكأداء التي واجهت النظرية الجسيمية، والمتمثلة في إخفاقها بتقديم تفسير مقنع لظاهرة الانكسار فيما يتعلق بواقعة مؤداها أنه عندما يسقط شعاع ضوئي صادر من القمر على سطح بحيرة، على سبيل المثال، فإنه سوف ينكسر جزء من ذلك الشعاع وينعكس الجزء الآخر، والذي يرى فيه صورة القمر.وهنا فإن مشكلة تواجه النظرية الجسيمية، والتي تنبثق من حقيقة أنه، لو كان شعاع الضوء الصادر من القمر يتكون من جسيمات لوجب أن يكون تأثير قوى الماء عليها جميعًا واحدا؛ أي، لوجب أن تنجذب وتنكسر جميعها وهذا لم يحدث.

علاوة على ذلك، فلقد صادفت النظرية الجسيمية عقبة كأداء أخرى، والمتمثلة في ظاهرة الحيود، وهي الظاهرة التي ينحرف فيها الضوء انحرافًا ضئيلاً عند مروره بحافة حادة أو جسم بالغ الصغر، أو من خلال ثقب ضيق. فلو كانت النظرية الجسيمية صحيحة في قولها بأن الضوء يتكون من سيال من الجسيمات المنبعثة من مصدر ضوئي والذي يسير في خطوط مستقيمة لوجب أن يتم حجب الضوء عن الأجسام التي تعترض طريقه، وأن تلقي ظلاً خلفها. ولكن اتضح أن تلك الحالة وإن كانت صحيحة في حالة الأجسام الكبيرة، فإنها لا تكون كذلك في حالة الأجسام الصغيرة كالسلك الرفيع أو الشعرة، والتي لا تكون كبيرة بما يكفي لكي تحجب الضوء. فبدلاً من حجبها، فإن الضوء ينحني أو ينثني حولها بدلاً من سيره في خط مستقيم. هذا الانثناء أو الحيود لا يمكن تفسيره في ضوء أي نظرية يمكنها أن تتبنى الوصف الجسيمي والذي يستدعي بقوة دخول الوصف الموجي.

على أية حال، فإن تلك الإخفاقات التي حاقت بالنظرية الجسيمية قد أدت بشكل قوي إلى تقلص نفوذها، وأدت، من ثم، إلى لفت الانتباه إلى النظرية الموجية التي أبدعها هيجنز معاصر نيوتن، والتي تضع في اعتبارها الضوء لا بمثابة سيال من الجسيمات المتدفقة من المصدر الضوئي، ولكن كموجات تنطلق من المصدر حاملة معها الطاقة الضوئية إلى شبكية العين. وهذا ما سوف نتناوله بالتفصيل في الجزء اللاحق.

إعداد و تأليف: د. خالد زهرة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *