الرياضيات و الفيزياء…أيهما أهم؟
من منكم درس فيزياء الكم؟ أو الفيزياء النسبية؟ أو مفاهيم الالكتروديناميك الكمومي؟ ما هو الرابط المشترك بين كل هذه المفاهيم و النظريات و الظواهر؟
في الحقيقة، فإن الرابط الوحيد بينها جميعاً، أنها عبارة عن نظريات، تم إثبات صحتها بالمعادلات الرياضية، قبل أن يتم تجريبها أو التأكد من صحتها باستخدام التجربة.
هذا يقودنا للنقطة الأهم، و النقطة الأكثر جدلاً ربما منذ مئات السنين: ما هو الأساس الذي ترتكز عليه العلوم؟ هل هو الرياضيات؟ أم الفيزياء؟ أم المنطق؟ أم التجربة؟
لو أردنا أن نحلل الموضوع بصورة تجريدية، فإن المنهج العلمي الحديث يقوم على مبدأين بسيطين: التجربة و الملاحظة، أو التجربة و الاستنتاج…و لكن هل التجربة تعني فقط التجربة المخبرية؟ أم أن التجربة أيضاً قد تكون تجربة رياضية؟ بالمعادلات و الأرقام و المنطق؟ هذا من ناحية، و من ناحية أخرى، فلو عدنا إلى الفيزياء الحديثة، منذ وضع ماكس بلانك أساس نظرية الكم عام 1900، ووضع ثابته الشهير، و إلى اليوم، فإن كل الظواهر الفيزيائية، و كل النظريات الحديثة، و التفسيرات الذرية لسلوك الذرة و الجسيمات الأصغر منها، حتى النموذج المعياري و جسيم هيغز، فكلها كانت عبارة عن معادلات رياضية بالأساس، و أغلب علماء الفيزياء الحديثة، قد تلقوا تعليماً عالي المستوى بمجال الرياضيات، كي يتمكنوا من تطوير معادلاتهم و استنتاجاتهم بشكل أفضل.
لنأخذ بول ديراك على سبيل المثال، ففي حين كان يبحث عن معادلة مثالية لتوصيف سلوك الجسيمات الذرية، أخرج للعالم المعادلة التي تنبأت بوجود المادة المضادة! كيف حصل ذلك؟ بالصدفة و بدون حتى أن يقصد ديراك ذلك، فقد لاحظ فيما بعد، أن المعادلة تقبل حلين، و ليس حلاً واحداً، و بذلك، فإن أحد الحلول يوصف المادة التي نعرفها و نتعامل معها، بينما الحل الآخر يشابه تماماً المادة التي نعرفها، و لكن بإشارة سالبة! إنها المادة المضادة!
ريتشارد فاينمان هو الآخر، فإسهاماته في نظرية الالكتروديناميك الكمومي، تقوم على مجموعة من المخططات و الرسوم البيانية، التي تعرف باسم “مخططات فاينمان Feynman Diagram” و هي التي تدرس احتمالية تفاعل جسيمين أوليين مع بعضهما البعض، و هي مبنية أساساً على نظرية الاحتمالات الرياضية، و من ثم تم ترجمة النتائج إلى مخططات و رسوم بيانية، من أجل تسهيل التعامل معها.
التجربة الأشهر بتاريخ الفيزياء، ألا وهي البحث عن جسيم هيغز، فقبل الإعلانات الأخيرة من CERN عن التمكن من التقاطه، كيف تنبأ العلماء بوجوده؟ كيف تنبأ بيتر هيغز نفسه بوجود هذا الجسيم؟ هذا يتطلب مننا العودة إلى عام 1964، عندما نشر بيتر هيغز ورقة علمية، تتحدث عن “انكسار التناظر في النظم الفيزيائية” و بموجب معادلاته الرياضية التي عمل عليها طويلاً، توصل إلى أن حالة الانكسار في النظم، تتطلب وجود جسيماً أولياً، و حقلاً أولياً هو حقل هيغز، الذي تكتسب به كل الجسيمات الأخرى خواصها و اختلافاتها.
الأمثلة حول ارتباط الفيزياء بشكل وثيق بالرياضيات تطول و تطول و تطول، و حديثاً يتم استخدام نظرية المجموعات “Group Theory” من أجل توصيف سلوك الجسيمات الأولية في مجموعات، كل منها تتصف بخصائص معينة.
خلاصة القول، و كرأي شخصي، فإن الرياضيات تبقى الأساس و المرجع، و لعل الصراع الفيزيائي الذي تحدثنا عنه كثيراً، ألا وهو صراع “بور-آينشتاين” فإن سببه هو الرياضيات نفسها، بين فريق يؤمن بصحة المعادلات الرياضية مهما كانت معقدة، و فريق آخر يرفض المعادلة حتى لو كانت صحيحة.
تبقى الرياضيات هي الأساس الذي ننطلق منه، و نعود إليه من أجل توصيف الظواهر أو التجارب التي أجريناها، و فضلاً عن أدواتها الرائعة في توصيف ما يدور من حولنا، فإن الطرق الرياضية في حل المسائل و المعادلات، و المنطق المتبع بها، هو ما يكسب الإنسان منطقاً فكرياً موضوعياً، مجرداً، و علمياً، أكثر من أي شيء آخر.
تحرير: ماريو رحال