ماكسويل و المعادلات الإلهية
خذ مغناطيسياً، ضع بين قطبيه سلك معدني، ثم لاحظ مرور تيار كهربائي ضمن السلك!
خذ سلكاً معدنياً، مرر به تياراً كهربائياً، ثم لاحظ تشكل حقلاً مغناطيسياً حول السلك من خلال انتظام برادة الحديد المنثورة حول السلك!
هاتان التجربتان البسيطتان، هما التجربتان اللتا أكسبتا مجلد الكتب الانجليزي مايكل فاراداي شهرة علمية ذائعة الصيت، و بفضل هاتين التجربتين، تم إثبات و لأول مرة عن وجود علاقة ما بين المغناطيسية و الكهربائية، ليصاغ فيما بعد ما يعرف بمبدأ “التحريض”.
تجريبياً، كانت الأمور واضحة، فالمغناطيس يؤثر بالناقل المتوضع بين قطبيه، و يحث به تياراً كهربائياً، و التيار الكهربائي المار ضمن ناقل، سيولد حوله حقلاً مغناطيسياً…لكن التجربة وحدها لم تكن كافية لتفسير ما حدث…و بسبب ضعف فاراداي في الرياضيات، فإن التفسير الدقيق لهذه الظواهر بقي لغزاً محيراً.
بعد هذه الحوادث بحوالي 30 عام، سمع عالم فيزياء اسكتلندي يدعى جيمس كلارك ماكسويل بنتائج تجارب فاراداي، و أراد دراسة هذه النتائج بشكل رياضي دقيق، خصوصاً في فترة كان الفيزيائيون منشغلون بقضية تحديد الوسط الناقل للأمواج، أو ما كان يعرف بالـ “أثير”.
بعد دراسة معمقة و طويلة، نشر ماكسويل نتائجه الرياضية على شكل (4) معادلات رياضية أنيقة، توضح و بشكل دقيق، العلاقة ما بين القوى المغناطيسية و الكهربائية، و بين كيف أنهما وجهان لقوة واحدة أكبر و أهم، هي القوة الكهرطيسية، و أظهرت معادلاته أن القوة الكهرطيسية قوة تنتج عن تداخل الحقلين الكهربائي و المغناطيسي مع بعضهما البعض، و تنتشر في الأوساط المادية على شكل موجات.
فيما بعد، انتشرت شهرة ماكسويل كالنار في الهشيم، و على الرغم من عدم فهم كل العلماء لمعادلاته في ذلك الوقت، إلا أن شهرته اكتسحت كل الآفاق، و وصل الغرور بالفيزيائيين في ذلك الوقت لحد أن يعلن العالم ويليام تومسون (اللورد كلفن) أن كل القوانين الأساسية و العلاقات الهامة قد اكتشفت، و لم يبقى لنا الآن سوى إجراء بعض القياسات!
في الواقع، فإن ماكسويل و معادلاته لم ينهيا القصة، بل إن قصة الفيزياء الحديثة قد بدأت فعلياً مع معادلات ماكسويل، و نستطيع القول، و بكل أمانة، أنه بدون هذه المعادلات، فإن كل أوجه الفيزياء الحديثة و التكنولوجيا الحديثة كانت لتكون غير موجودة!
فمن وجهة نظر كمومية، فإن معادلات ماكسويل هي حجر الأساس لدراسة تأثير الحقول المختلفة على الجسيمات المشحونة، و تحديد سرعة انتشار الجسيمات في الأوساط المختلفة، فضلاً عن ذلك، فهي تبين حالات انعدام المغناطيسية، أو القوة الكهربائية، حيث أن أياً من هاتين القوتين هي حالة خاصة من القوة الأكبر، أي الكهرطيسية.
و من وجهة توحيدية، فماكسويل هو أول عالم بالتاريخ تمكن من توحيد قوتين طبيعيتين، مكتشفاً قوة أساسية، ستصبح لاحقاً واحدة من القوى الأساسية التي يرتكز عليها النموذج المعياري للفيزياء الجسيمية، و بدون اكتشافه، لما كان كل من عبد السلام و غلاشو و وانيبرغ قادرين في سبيعنيات القرن الماضي من اكتشاف القوة الكهرضعيفة.
و من وجهة نظر علوم الاتصالات و التقانة، فإن عمليات إرسال و استقبال الموجات (و التي هي جميعها موجات كهرطيسية بأطوال موجية مختلفة) لم تكن لتتم بدون معادلاته الأربعة، و كل علميات الاتصال الخلوي و اللاسلكي كانت لتكون أحلاماً خيالية لولا معادلات ماكسويل، و لا ننسى دورها في مبدأ عمل المحرك الكهربائي التحريضي، و الذي هو أساس عمل كل المحركات الكهربائية الحالية، أو تطبيقاتها المتقدمة في بعض الأجهزة مثل التصوير بالرنين المغناطيسي.
توفي ماكسويل مبكراً، و لم يعش طويلاً ليرى الآثار الفعلية لمعادلاته الإلهية ( دعيت بذلك أيضاً لأنها تفسر نشوء الضوء كظاهرة موجية)، و لم يعش ليرى آينشتاين يستخدم معادلاته من أجل إثبات المفعول الكهرضوئي و إنهاء الجدل العلمي حول الأثير، و لم يعش ليرى رواد الميكانيك الكمومي يفسرون سلوك الجسيمات الذرية اعتماداً على معادلاته و قوته الجديدة المكتشفة، إلا أنه حتماً، ببصيرته النافذة، و ذكائه المتقد، أدرك تمام الإدراك، ما قد تفعله هذه المعادلات السحرية الأربعة، في تغير وجه الفيزياء و التقانة، مرة واحدة و إلى الأبد.
تحرير: ماريو رحال