سلسلة تعرف على الفيزياء: الحلقة الثالثة (1)
رؤية الفيزياء الكلاسيكية للضوء و الإشعاع
في هذه الحلقة، سنتناول موضوع رؤية الفيزياء الكلاسيكية للضوء و الإشعاع، و ما هي النظريات و الأفكار التي أثيرت حول الموضوع، و كون هذا الموضوع يعتبر جوهرياً و أساسياً، فإننا سنقسم هذه الحلقة إلى (3) أجزاء، و سنتناول هنا الجزء الأول منها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3) رؤية الفيزياء الكلاسيكية للضوء والإشعاع
الجزء الأول – نظريات الضوء فيما قبل نيوتن
علمنا مما سبق أن الفيزياء الكلاسيكية كانت قد تبنت النموذج الجسيمي للوصف والتفسير، والذي كان قد اكتسب مشروعيته الكونية من نجاحه المنقطع النظير في تطبيقه على ما لا يُحصى من الظواهر الميكانيكية والفلكية والحرارية، حيث تتم معالجة الكينونات الملحوظة بوصفها جسيمات مادية، والتي تمتلك في جميع الأوقات قيمًا محدودة لمواضعها وسرعاتها.
وبجملة واحدة، فإن النموذج الجسيمي قد نجح في استيعاب جميع مستويات الوجود المادي تقريبًا. وعلى الرغم من ذلك، فلقد بدا أن الكثير من الظواهر البصرية تتملص من إمكانية الخضوع لهذا النموذج الجسيمي، والتي استدعت بقوة إنشاء نموذج آجر للوصف والتفسير، على تخوم النموذج الجسيمي ألا وهو: النموذج الموجي، والذي حاول تفسير الظواهر الضوئية بدلالة الموجات والاضطرابات في الأثير طبقًا لما أوضحته تجارب جيرمالدي، وهيجنز، ويانج، وفرنل، وأخيرًا ماكسويل، وهيرتز على ما سنرى في هذا الجزء.
على أية حال، فإن هذه التطورات التي حدثت في مجال البصريات Optics لم تكن منبتة الجذور ولا منقطعة الأواصر عن التطورات العلمية التي كانت قد سبقتها. ومن أجل تبيان ذلك، فإنه يجدر بنا أن نعطي لمحة تاريخية موجزة عن تطور علم البصريات.
3.1 نظريات الضوء فيما قبل نيوتن
فى الحقيقة، فقد كان من المعروف، منذ أيام اليونانيين القدماء، أن أشعة الضوء تتمتع بخصائص عديدة كقدرتها على الانتشار propagation في الفراغ في خطوط مستقيمة، وقدرتها على الانعكاس reflection عن طريق المرايا، وقدرتها على الانكسار refraction.
فلقد أُدرِكت خاصية انتشار الضوء في خطوط مستقيمة منذ أيام إمبادوقليس Empedocles، حيث رأى أن الضوء هو عبارة عن تدفق مادي material effluence والذي ينطلق من الجسم المضيء وينتشر في الفضاء المادي بسرعات محددة. فيما عرفت بنظرية الانبعاث أو الإصدار أو نظرية نسخة الجسم والتي طورها الذريون، وعلى وجه الخصوص أبيقور Epicure (341ـ 270 ق.م)، والتي تقوم على دعوى مفادها: أن الأجسام تبث بشكل متواصل ردودها في جميع الاتجاهات، وتقطع هذه الردود الهواء بخط مستقيم، في تكتلات أو تجمعات متماسكة من الذرات محافظة على الاتجاه والشكل واللون الذي كانت تملكه عن الجسم الصادرة عنه وتدخل هذه الأغشية الدقيقة عين المراقب.
كذلك أُدرِكت خاصية انعكاس الضوء عن طريق المرايا منذ أيام إقليدس Euclid، وأعطى هيرو الإسكندري Herou of Alexandria وصفاً للظروف الميكانيكية لانعكاس الأشعة المرئية، وأوضح فيه أن زوايا سقوط الأشعة على جسم عاكس تساوي زوايا انعكاسها (المعروف بقانون الانعكاس) كما تمت البرهنة بشكل تجريبي على هذا القانون عن الانعكاس البصري، عن طريق بطليموس Ptolemy.
كذلك فإن خاصية انكسار الضوء قد أدركت منذ أيام بطليموس، والذي قام بالدراسة التجريبية الجادة الأولى عن انكسار الضوء، حيث أوضح بطليموس أن أشعة الضوء يمكنها أن تنكسر refracted أو تنحني bent مبتعدة عن سيرها في خط مستقيم عند مرورها من وسط مادي لآخر مختلفين في الكثافة، على سبيل المثال، من الهواء للماء، وأوضح أن مقدار الانحراف عن المسار الأصلي يعتمد على درجة الاختلاف في الكثافة، حيث أن الدرجة الأكبر من الكثافة ينتج عنها درجة أكبر من انحراف الأشعة.
وفي الحقيقة، فإن النقطة الجديرة بالاعتبار هنا، بالنسبة لبطليموس هي وجهة نظره حول عملية الرؤية، حيث أن بطليموس ما يزال يعتقد، ومتابعًا في ذلك إقليدس، وخلافًا لإمبادوقليس، أن أشعة الضوء تنبعث من العين، والتي تتلمس طريقها في الفضاء حتى تسقط على الجسم المرئي. فيما عرفت بالنظرية الحسية للإبصار، أو نظرية البث، والتي تقوم على دعوى مفادها أن العينين تطلقان شعاعين غير مرئيين يتم بهما إدراك الأجسام كقرني الاستشعار عند الحشرات وينقلان إحساسهما إلى المخ، وبذلك يحدث الإحساس البصري، حيث كان يفترض بداهة أن الأشعة لا تقطع الفضاء إلا بخطوط مستقيمة تمتد من العين إلى اللانهائي. ولقد كانت هذه النظرية مقبولة أول الأمر ولكنها ما لبثت أن انهارت عندما فشلت في تفسير استحالة رؤية الأجسام في الظلام.
على أية حال، فإن التطور الهام في ميدان البصريات قد جاء على يد ثلة من الفلاسفة العرب والمسلمين في القرن التاسع للميلاد. فلقد كتب أبو يوسف يعقوب بن اسحاق الكندي al-Kindi (800– 873)، فيلسوف العرب والمسلمين الأول، عدة أبحاث عن البصريات، والتي برهن فيها على انتشار أشعة الضوء في خطوط مستقيمة، كما تناول بالتحليل ظاهرتي الانبعاث والانكسار، ولكنه قد نحى منحى بطليموس في قوله بنظرية البث أو النظرية الحسية للأبصار.
وفي الحقيقة فإننا نجد أن المساهمات الأبرز للحضارة الإسلامية قد جاءت على يد ابن الهيثم Ibn-al-Haithm (965– 1038)، والمعروف عند فلاسفة العصور الوسطى اللاتينيين باسم ابن الخازن Ibn-al-Hazan، والذي تركزت أبحاثه في مجال البصريات على شرح وتفسير ظواهر انعكاس وانكسار الضوء. فلقد فسَّر ابن الهيثم ظاهرة انعكاس الضوء عن طريق إرجاعها إلى خاصية ما، والتي تكمن في الجسم العاكس؛ أي، قوة “تنافره” أو “مقاومته” للضوء. هذه القوة تكون أقوى في الأجسام المصقولة منها في الأجسام الخشنة، بسبب أن أجزاء الأولى؛ أي، جسيمات الأجسام المصقولة تكون محتشدة بشكل محكم، بالطريقة التي لا تسمح للضوء أن ينفذ من بينها؛ بينما الأجسام الخشنة تكون كثيرة المسام وتكون أجزاء سطحها متفرقة غير متضامة، ومن أجل ذلك ينفذ قسم من الضوء في المسام حيث يضيع، ثم ينعكس القسم الآخر متفرقًا متشتتًا مثلما يُرى بوضوح.
ومن هنا يتبين لنا أن ابن الهيثم قد أدرك حقيقة أن الضوء يرتد؛ أي، ينعكس، عن الأجسام الصقيلة، إذا وقع عليها كما ترتد الكرة عن الجسم الصلب عندما تصطدم به، مع فارق أن الكرة تتحرك إلى جهة مخصوصة، والضوء يتحرك على الاستقامة في جميع الاتجاهات التي يجد سبيله إليها، فإذا سقط الشعاع على سطح صقيل بشكل عمودي، فإنه ينعكس على نفسه، وإذا سقط بشكل مائل فإنه يرتد بشكل مائل مشكلاً مع ذلك السطح زاوية مساوية للزاوية التي يُكوِّنها عند السقوط عليه.أما إذا سقط الشعاع الضوئي على الأجسام غير الصقيلة، فإن قسمًا من الضوء ينفذ من خلال مسامها وينعكس الباقي مُشتتًا فلا تراه العين.
بالإضافة إلى ذلك، فإن ابن الهيثم قد تناول ظاهرة الانكسار بالتفسير، حيث أوضح أن انكسار الضوء يحدث عندما يصطدم الضوء بسطح وسط ذي كثافة أكبر من الوسط الذي يسقط منه. كما أوضح أن الضوء، ينتقل بسرعة عالية في الأجسام الشفافة، وأن سرعته تكون أعظم في الوسط الأقل كثافة (مثل الهواء) منها في الوسط الأكبر كثافة (مثل الماء أو الزجاج).
وبناء على ذلك فإن ابن الهيثم يرى أن انعطاف الضوء؛ أي، انكساره، عند مروره في أجسام مُشفّة مختلفة الشفيف؛ أي، عند مروره من وسط مُشفّ معين إلى وسط مُشفّ غير متجانس معه، إنما يحدث بسبب أن سرعة الضوء في الوسطين ليست واحدة، وأن سرعته في المُشفّ الألطف أعظم من سرعته في المُشفّ الأغلظ، فإذا مرت الأشعة الضوئية من المُشف الألطف إلى المُشف الأغلظ انعطفت جهة العامود، وإذا مرت من المُشف الأغلظ إلى المُشف الألطف انعطفت إلى خلاف جهة العامود، أما إذا مرت عمودية من وسط معين إلى وسط غير متجانس معه فإن الانعطاف يكون معدومًا.
علاوة على ذلك، فإن ابن الهيثم قد تقدم بمساهمة أخرى غاية في الأهمية، وهي تفسيره الصحيح لعملية الرؤية، عن طريق القول بأن الرؤية تكون ناشئة عن شيء ما ينبعث من الجسم المرئي باتجاه العين، والذي يُؤثر في أعصاب الإبصار ليُحدث الرؤية في معارضة واضحة لتصورات إقليدس وبطليموس. ومن هنا، فإنه يمكن القول، أن علم البصريات قد بدأ يتخذ صورته الحديثة مع ابن الهيثم، وظلت أبحاثه عن البصريات، المرجع الرئيسي في هذا الميدان حتى القرن السابع عشر. فلقد استبدل ابن الهيثم تمامًا مفهوم الإبصار؛ فقبله كان الاتجاه الأهم عند الرياضيين خاصة، هو فكرة الشعاع البصري؛ أي، خروج الشعاع البصري من البصر إلى المُبصَر، إلا أن ابن الهيثم عكس الأمر وبيّن أن خروج الأشعة يكون من المُبصَر إلى البصر.
وبالاتفاق مع هذا الاتجاه الجديد الذي دَشَّنَه ابن الهيثم، تأتي مساهمة كبلر حول طبيعة الرؤية، حيث وصفها كبلر بأنها “الإحساس بإثارة الشبكية”. فلقد اعتقد كبلر أن الرؤية تكون ناشئة عن طريق شيء ما والذي ينبعث من الجسم المرئي باتجاه العين، حيث تُكوِّن العدسات البلوريةCrystalline Lenses للعين صورة للجسم المرئي والتي تقع على الشبكية retina.
على أية حال، فإن ذلك الاتجاه الجديد الذي دَشَّنَه ابن الهيثم والذي لقي قبولا ً لدى كبلر، باعتباره يُشكل تقدماً حقيقياً في علم البصريات عمومًا، وفي تفسير عملية الإبصار بشكل خاص؛ لم يستحوذ على قبول الجميع. على سبيل المثال، فإن ديكارت كان ما يزال مُصرًا على أن عملية الرؤية إنما تتم عن طريق انبعاث ضوء من العين والذي ينتشر بشكل فوري propagated instantaneously عن طريق انضغاطات تنتقل من جسم إلى جسم بسرعة لا نهائية داخل الوسط الأثيري Ethereal medium الذي افترض أنه يملئ الفضاء برمته، والذي يكون ممتدًا بين العين والشمس والذي يتألف من كريات صغيرة جدًا ذات حجم لا يتغير تتلامس كصف في سلسلة.
إن النقطة الجديرة بالاعتبار هنا، هي أن مبدأ الانتشار الفوري للضوء، يكون نتيجة ضرورية لمفهوم ديكارت عن الوسط الذي يستخدمه بوصفه حامل للضوء. كما أن طبيعة ذلك الوسط إنما تكون محددة عن طريق التعريف الديكارتي للمادة؛ فطبقاً لديكارت فإن طبيعة الجوهر المادي تتوقف على كونه ممتدًا؛ فالامتداد بالإضافة للحركة، هي الخصائص الأساسية للجوهر المادي، ومن ثم فإن الوسط المادي لابد وأن يتكون من جسيمات متناهية الصغر تكون حاملة للضوء.
على أية حال فإن تقدماً هاماً قد حدث في مجال البصريات عن طريق أُول رومير Ole Romer في عام 1676 عندما أعلن ولأول مرة عن اكتشافه للسرعة المحددة للضوء، عن طريق قياساته في المرصد الملكي في باريس والتي أوضح أنها تبلغ 214300 كم/ث في معارضة تامة مع تصور أرسطو وكبلر و ديكارت، والذين رأوا أنها تكون غير محددة. ومن ثم أدى اكتشاف رومير لمحدودية سرعة الضوء إلى هدم نتيجة أساسية في طريقة انتشار أشعة الضوء وهي الانتقال في اللحظة والآن للظاهرات الضوئية؛ أعني التصور الديكارتي للانتشار الفوري للضوء.
وفي الحقيقة فإن المساهمة الأخرى الجديرة بالاعتبار بالنسبة لرومير Romer هي محاولته إعطاء تصوُّر مُحدد حول طبيعة الضوء ذاته، وذلك من خلال دراسته لظاهرة طيف الألوان المعروف منذ القدم؛ أي، قوس قزح rainbow. فلقد خمَّن رومير أن اختلاف ألوان الطيف يكون ناتجًا عن جسيمات تدور بسرعة محددة. ومن ثم فإن الجسيمات التي تدور بشكل أكثر سرعة تنتج الإحساس باللون الأحمر في العين، بينما الجسيمات التي تدور بشكل أبطأ تنتج الإحساس باللون الأصفر والأزرق والأخضر على الترتيب.
على أية حال فإنه ينبغي علينا أن نلاحظ أن تصور رومير حول طبيعة الضوء، لم يكن إلا تخميناً فحسب، ولم يرتقي إلى مرتبة البرهان، وربما يُعزى ذلك لنقص الأدوات التجريبية التي لم تكن متاحة في ذلك الوقت، والتي يمكن من خلالها اختبار أفكار رومير وثلة من الأفكار الأخرى.
بيد أنه من الأهمية بمكان التأكيد، على أن غالبية التصورات والنظريات التي تجلت حتى الآن تقريباً، إنما تتضمن بشكل أو بآخر، وصف الضوء باعتباره يتكون من سيل من الجسيمات، سواء ما كانت تلك الجسيمات تنبعث من العين باتجاه الجسم المرئي، طبقاً للتصور الزائف لإقليدس وبطليموس وديكارت، أو تنطلق من الجسم باتجاه العين طبقاً للتصور الصحيح لإمبادوقيلس وأبيقور وابن الهيثم وغيرهم. وبكلمات أخرى، فإن الوصف المُتبنى، حتى هذه اللحظة، في وصف الضوء ومعالجة خصائصه المختلفة، إنما يعتمد وبشكل جوهري على النموذج الجسيمي؛ أي، على كون الضوء ذو طبيعة جسيمية، بشكل أكثر أو أقل، برغم أن هذه الطبيعة لم تكن معلنة بوضوح في كثير من النظريات.
لكن السيادة المُطلقة لهذا النموذج الجسيمي في تفسيره للظواهر البصرية قد بدأت في الانحسار والأفول في عام 1665 عندما أعلن فرانسيسكو جيرمالدي (Francesco Grimaldi(1618– 1663، أن أشعة الضوء لا تسير في خطوط مستقيمة، ولكنها تميل ميلاً خفيفًا أو تتشتت عندما تقترب من حواف الأجسام. ومن ثم فإن جيرمالدي قد أرجع كلتا الظاهرتين، إلى أن الموجات الضوئية تتصرف مثل الموجات المائية الخفيفة أو نبضات الصوت، أما اختلاف الألوان فعزاه إلى أن لكل لون موجة ضوئية خاصة به والتي تختلف عن موجات الألوان الأخرى في أطوالها. ومن هنا أعلن جيرمالدي عن ميلاد نموذج آخر لوصف الضوء، ألا وهو النموذج الموجي، والذي يكون متطلبًا من أجل وصف ظواهر الحيود diffraction. ففي بحثه، المنشور بعد وفاته، فإن جيرمالدي قد لفت الانتباه إلى أن:
“الضوء قد يكون منتشرًا أو منتقلاً ليس فقط بطريقة مباشرة، أو عن طريق الانكسار، أو عن طريق الانعكاس، ولكن أيضاً بطريقة رابعة ـ عن طريق الحيود”.
وبناء على ذلك فإنه يمكننا القول، أن جيرمالدي يعتبر أول من أشار لظاهرة الحيود، وهي الظاهرة التي تبدو فيها الخاصية التموجية للضوء بشكل أكثر وضوحٍ وأكثر إقناعٍ. ولقد قام جيرمالدي بعمل العديد من التجارب التي اتضح منها أن الضوء ينثني بمقدار ضيئل عندما يمر عبر ثقب في حاجز. ومن ثم فإن الضوء لا يقتصر على الانتشار في خطوط مستقيمة مثلما تفترض ذلك النظرية الجسمية. كما اتضح من تجاربه ايضا أنه لم يكن هناك انتقال حاد من الضوء للظلام، بل تعاقبات متكررة لمناطق الضوء والظلام، والتي ذكرته بتعاقب الموجات عندما يُلقى حجر في بركة، والذي أدى به لافتراض أن الضوء يكون مرتبطاً بطريقة ما بحركة موجية. وبذلك تعتبر مساهمة جيرمالدي مُبشِّرة بإمكانية وجود شكل ما لنظرية موجية والتي تتبنى الوصف الموجي لتفسير ظواهر الحيود، وإمكانية تفسير الخصائص البصرية الأخرى.
على أية حال، فإن هذه البشارة لجيرمالدي، بإمكانية وجود شكل ما لنظرية موجية، قد تعززت عن طريق روبرت هوك Robert Hooke (1635– 1703). ففي عام 1665، وهي نفس السنة التي تم فيها نشر أبحاث جيرمالدي حول الحيود، قام هوك بنشر مجموعة من الأبحاث، والتي تناولت طبيعة الألوان من ناحية، وتناولت أيضاً طبيعة الضوء من ناحية أخرى. فلقد رأى هوك أن الضوء الأبيض المألوف (ضوء الشمس) يكون مُؤلفًا من مجموعة من الألوان مثل تلك التي تظهر في قوس قزح، والذي يكون ناتجًا عن اهتزازات سريعة لجسيمات في الجسم المضيء، وأن هذه الاهتزازات تنتشر إلى خارج الجسم المضيء على شكل نبضات كروية في وسط شفاف. يقول هوك:
“إن الضوء ليس سوى نبضة أو حركة تنتشر عبر وسط شفاف منتظم ومتجانس، وأن اللون ليس سوى اضطراب للضوء الأبيض، عن طريق اتصال تلك النبضة بأخرى، والذي يحدث عن طريقه الانكسار.إن بياض وسواد اللون ليس سوى وفرة أو ندرة من أشعـــة الضــوء غير المضطربة، وأن اللــــونين[ الأزرق والأحمر] ليسا سوى تأثيرات لنبضة مركبة أو اضطرابات في انتشار الحركة، والذي يكون مُسَبَّباً عن طريق الانكسار”.
من هنا، يتضح لنا، بالنسبة لتصور هوك عن الألوان، أن الضوء الأبيض يُرى كذلك نتيجة لتأثير حركة أو نبضة غير مركبة وغير مضطربة، والتي تنتشر في وسط شفاف ومتجانس؛ أعني، وسط أثيري، وأن جميع الألوان تنشأ بسبب اضطراب الضوء عن طريق الانكسار.إن هذا يتضمن أن الألوان التي تظهر في أشعة الضوء، كما في قوس قُزح، ليست خصائص أصلية أو فطرية مُتضمِّنة في أشعة الضوء.
وعلى الرغم من أن مساهمة هوك حول الألوان ذات أهمية كبيرة، إلا أن مساهمته الأكثر أهمية تلك التي كانت حول طبيعة الضوء ذاته، حيث يظهر فيها بوضوح السمة التموجية للأشعة الضوئية. حيث أنه إذا كان الضوء عبارة عن حركة أو نبضة:
“فإن الحركة تكون منتشرة في كل ناحية عبر وسط متجانس في خطوط مستقيمة… بسرعة متساوية equal velocity. انه لمن الضروري أن كل نبضة Pulse أو اهتزاز Vibration للجسم المضيء في هذا الوسط، سوف تولد مجالاً [ تموجيًا ] والذي سوف يتزايد بشكل مستمر وينمو بشكل أكبر، بنفس الطريقة التي تنتشر بها الموجات على سطح الماء (رغم أنها تكون أسرع بشكل غير محدود) والتي تتضخم إلى دوائر أكبر فأكبر حول محورها. فعن طريق إلقاء حجر في بركة، فإن الحركة تكون قد بدأت. إنه ينتج من ذلك بالضرورة أن جميع أجزاء هذه الكرات المتموجة عبر وسط متجانس كهذا تتقاطع مع اتجاه الأشعة بزوايا مستقيمة”.
من هنا يبدو لنا أن أفكار هوك تحمل بشارة بمولد نظرية موجية عن الضوء والتي لم تكن خالصة تمامًا من التصورات الجسيمة؛ حيث أنه يكاد يوحي لنا بفكرة ازدواجية السمات الجسيمية والموجية بالنسبة للضوء. فعلى الرغم من أن الضوء هو في طبيعته جسيمات مضيئة تنبعث من المصدر الضوئي، في جميع الاتجاهات بخطوط مستقيمة عبر المائع المادي الأثيري (لديكارت) إلا أن هذه الجسيمات تتولد عنها اهتزازات تموجية في هذا الوسط والتي تكون عمودية على اتجاه انتشار الأشعة الضوئية، والتي تكون مماثلة تمامًا لحركة موجات الماء. ومن ثم، فإنه يمكن أن يُعزى إليها نوعًا ما من الحركة الموجية المستعرضة Transverse motion.
وبناء على ذلك، فإنه يمكننا القول، أن هذه الحزمة من الأفكار التي قدمها هوك حول طبيعة الضوء والألوان قد شَكَّلت تقدمًا محدودًا باتجاه تكريس النموذج الموجي لوصف حركة الضوء وطبيعته، حيث أنه لم يقل بوضوح أن نبضاته أو موجاته تتبع كل واحدة منها الأخرى بفترات فاصلة منتظمة regular intervals؛ أي، أنه لم يقل بدورية Periodicity موجات الضوء.
إعداد و تأليف: د. خالد زهرة
مراجعة: رضوان تشي