بين آينشتاين و نيلز بور…صراع الفيزياء النسبية و الكمومية

في عام 1900، و بعد حوالي أكثر من 30 عام، فجر الألماني ماكس بلانك مفاجأة من العيار الثقيل، عندما أعلن للعالم عن “نظرية الكم”، حيث تمكن لأول مرة، من تفسير معضلة إشعاع الجسم الأسود، عندما خرج للعالم بإعلانه عن الجسيمات الحاملة للطاقة الضوئية “فوتونات” و المتوافقة مع معادلات ماكسويل.

بعدها بخمس أعوام تماماً، فجر آينشتاين مفاجأة أخرى، عندما أعلن عن النظرية النسبية الخاصة بعام 1905، حيث أطلق معادلته الشهيرة للطاقة، أتبعها فيما بعد بالنسبية العامة، التي وسع بها مفهومنا حول الجاذبية لتصبح أكثر شمولية، و أن الزمان و المكان ليسا منفصلين عن الظواهر الفيزيائية، بل على العكس، هما في صميم الحوادث الفيزيائية و أحد أبعادها، حيث يشكل الزمان البعد الرابع.

من ناحية أخرى، استفاد علماء آخرون من اكتشافات بلانك، و تجربة رذرفورد في بنية الذرة، من أجل تفسير سلوك الذرة و الجسيمات المكونة لها،حيث أعلن نيلز بور عن نموذجه المطور عن نموذج رذرفورد، و الذي فسر من خلاله سلوك ذرة الهيدورجين عام 1913، معتمداً على فكرة “تكميم مستويات الطاقة للذرة”، حيث بين أن لكل سوية ذرية، تدور بها الالكترونات، طاقة معينة، و من أجل انتزاع الكترون معين منها، فأنت بحاجة لطاقة تساوي أو تزيد عن طاقة السوية.

منذ ذلك التاريخ، أي منذ إعلان بور عن نموذجه الذري المطور عم نموذج رذرفورد، بدأ واحد من أشهر الصراعات العلمية بالتاريخ الحديث، صراع مدرسة الفيزياء الحديثة، التي تبنت أفكار نيلز بور الكمومية، و مدرسة أخرى، تبنت أفكار آينشتاين النسبية، دعيت مجازاً بالمدرسة التقليدية، و السبب الأساسي بالخلاف، هو المعادلات و التفسيرات التي خرج بها أنصار نيلز بور لسلوك المواد الذرية، التي اعتمدت على الرياضيات المعقدة، و أنتجت تفسيرات بمفادها أن العالم الذري محكوم بالصدفة، و الاحتمالات المختلفة، و لا يمكن التحكم به بدقة، بخلاف اعتقاد أنصار مدرسة آينشتاين، الذين آمنوا أنه يمكن تفسير سلوك المواد و الجسيمات بصورة بسيطة، و بطريقة سلسة، و الأهم، بطريقة تمكننا من السيطرة الكاملة، و تعطينا الفهم الشامل لما يحدث في الأبعاد الذرية و ما دونها.

الخجة عند علماء الكم (أشهرهم بور و باولي و هايزنبرغ) هي قوة الرياضيات، فمعادلاتهم من المستحيل أن تخطأ، كونها مبنية على أساس رياضي متين، و مهما بلغت درجة التعقيد، فإن هذا لا ينفي شيئاً من صحتها، بينما ارتكز أنصار مدرسة آينشتاين، على أن العالم لا يمكن أن يحكم بالاحتمالات و الصدفة، و لا يمكن أن نجهل تفاصيله، وهو الأمر الذي دعى آينشتاين لأن يقول لنيلز بور بأحد النقاشات الشهيرة بينهما “الله لا يلعب بالنرد”، ليرد عليه نيلز بور بقوله “لا تقول لله ماذا يعمل”.

استمرت المناظرات لفترة طويلة، و كان الجمهور العلمي يميل لأحد الطرفين أحياناً، و يميل للآخر أحياناً أخرى، و لم يتمكن أحد من الوصول لضربة قاضية، يثبت بها صحة أفكاره، و فرضياته، إلى أن خرج هايزنبرغ بمبدأ الارتياب الشهير لديه، و الذي استنتج بناءً على معادلات رياضية صحيحة، و تم نشره في مؤتمر سولفاي التاريخي عام 1927، الذي حضره أبرز علماء الفيزياء بذلك الوقت، و ضم نخبة العقول التي أنتجت لنا الفيزياء التي نتعامل معها اليوم.

كانت معادلة هايزنبرغ بمثابة الضربة القاضية، خصوصاً أن هايزنبرغ قد طورها بعد صراع شخصي طويل بينه و بين شرودينغر، أحد أنصار مدرسة آينشتاين، فشرودينغر نمساوي، و هايزنبرغ ألماني، و من ناحية آخرى، كلاهما عبقري، حاد الذكاء، و بارع بالرياضيات، كان هناك صراع شخصي بينهما، شكل دافعاً لكل منهما لتطوير معادلات خارقة، ساهمت بتطوير فكرنا و نظرتنا للعالم من حولنا.

بالنسبة لآينشتاين فالصراع لم ينتهي، و أمضى القسم الأخير من حياته، في محاولات جاهدة للوصول لحلمه الأكبر، تبسيط كامل مفاهيم الفيزياء، بنظرية واحدة، كان يتخيلها على أنها “النظرية الموحدة الكبرى” بينما استمرت التفسيرات الكمومية و المعادلات الرياضية بالظهور، خصوصاً مع الاكتشاف المتتالي للجسيمات دون الذرية واحدة تلو الأخرى، فمن اكتشاف بنية النواة، إلى البروتونات و الالكترونات، ثم النترونات، ثم الكواركات و غيرها، و استمر أنصار مدرسة الفيزياء الكمومي بتطوير النظريات، و إضافة المعادلات، التي على الرغم من غرابتها الشديدة، إلا أنها كانت تثبت صحة تجريبية و بدقة عالية جداً!

توفي آينشتاين عام 1955، بينما توفي نيلز بور في أواسط الستينيات، و بينما توفي الأول دون أن يشاهد حلمه يتحقق، فإن الآخر قد توفي و هو يشاهد العلم الذي طوره و أسسه يكتسح ساحة الفيزياء، و يتبوأ مرتبة عالية في مجال تفسير سلوك الجسيمات في العالم الذري و ما دونه، و على الرغم من كل ذلك، فإن النظرية التي ساهم بتأسيسها لم تتمكن من تفسير قوى كونية شهيرة مثل الجاذبية، كما فعلت نسبية آينشتاين، بينما لم تتمكن نسبية آينشتاين على الرغم من قوتها من تفسير سلوك الجسيمات ما دون الذرية بدقة، كما فعلت الفيزياء الكمومية.

اليوم، و بعد أكثر من 100 عام على نشوء هذه الفروع الرائعة في الفيزياء، و بعد مرور أكثر من نصف قرن على وفاة هؤلاء العمالقة، نستطيع أن نلاحظ كما كانوا مخطئين بحق أنفسهم، ففي الوقت الذي انشغل فيه آينشتاين و بور بصراع شخصي لإثبات خطأ الطرف الآخر، نستطيع أن نرى اليوم أن تفسير الظواهر الفيزيائية في عالمنا يتطلب النظريتين معاً، و نستطيع اليوم أن نتخيل ماذا كان من الممكن أن يحصل، لو اتفقت تلك العقول الجبارة على التعاون لتفسير آلية عمل كوننا، بدلاً من الدخول في صراعات طويلة، من أجل إثبات خطأ طرف لصالح طرف آخر.

تحرير: ماريو رحال

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *